التربية الأسرية الدينية من دعاء عرفة
السيد حسين الهاشمي
منذ أسبوعيندعاء عرفة المنسوب إلى الإمام الحسين عليه السلام من أعظم النصوص الدينية والتربوية في التراث الإسلامي. يتميّز هذا الدعاء بعُمقه الروحي وتنوّعه المعرفي وثرائه التربوي الذي يمكن أن يُشكّل مرجعاً هامّاً في تهذيب النفس وتعزيز القيم الأخلاقية داخل الأسرة المسلمة. وهذا أمر أساسي ومهم. لأنّ الأسرة هي الخلية الأولى التي تنشأ فيها القيم والمعتقدات والسلوكيات. والدعاء بوصفه وسيلة للارتباط بالخالق يمكن أن يلعب دوراً محورياً في بناء الإنسان الصالح والأسرة المتماسكة.
البنية التربوية في دعاء عرفة
دعاء عرفة ليس مجرّد كلمات روحانية تُتلى في يومٍ خاصّ، بل هو مدرسة تربوية متكاملة. فحينما نقرء هذا الدعاء، نرى التواضع والخشوع إلى الله قبل بداية الدعاء حيث روي أنه: « روى بشر وبشير ابنا غالب الأسدي قالا : كنا مع الحسين بن علي عليهما السلام عشية عرفة فخرج عليه السلام من فسطاطه متذللاً خاشعاً فجعل يمشي هونا هونا حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده ومواليه في ميسرة الجبل مستقبل البيت ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستطعام المسكين ثم قال » (1). فمن البداية نعرف أن هذا الدعاء، له أثر تربوي عميق يمكننا أن نتعلم منه.
يمكن تقسيم محتواه إلى عدّة محاور تربوية. منها:
1. معرفة الله وبيان صفاته وتجديد العهد والميثاق مع الباري تعالى، ومعرفة الأنبياء وتعزيز الارتباط بهم، والتوجّه إلى الآخرة، والتعبير عن العقيدة القلبية.
2. التأمّل في آفاق الكون وتذكير بالنِّعَم الإلهيّة غير محدودة على الإنسان، وحمد الله وشكره عليها. يبدأ الدعاء بتعداد النِعَم الإلهية منذ بداية الخلق وتكوّن الإنسان، وهو ما يزرع في نفس القارئ روح الشكر والامتنان ويُعلّم أفراد الأسرة قيمة الاعتراف بالفضل.
3. التضرّع إلى الله والاعتراف بالذنوب والتوبة وطلب العفو والتوجّه نحو الصفات الحميدة والأعمال الصالحة. يحتوي الدعاء على مقاطع مؤثرة من الاعتراف بالذنب وطلب الغفران، ما يُعلّم أفراد الأسرة أهمية محاسبة النفس، والإصلاح الذاتي المستمر، وتقبّل الآخر رغم الزلّات.
4. الإقرار بعدم إمكانية إحصاء النعم الإلهيّة وذكر بعضها والاعتراف بالذنوب والأخطاء وذكر عدد منها.
5. طلب الحوائج المختلفة. فيبدأ بالصلاة والسلام على محمّد وآل محمّد عليهم السلام، ثم طلب المغفرة ونور الهداية والرحمة والبركة وسعة الرزق والثواب الأخروي وغير ذلك.
دور الدعاء للتربية الأخلاقية لأفراد الأسرة
الدعاء ليس مجرّد ألفاظ تُتلى، بل وسيلة تربوية تؤثّر في شخصية الفرد وسلوكه اليومي. فالدعاء يُشعر الإنسان بالطمأنينة والانتماء إلى القوّة العليا ويُؤثّر في تصحيح الأفعال والانضباط الأخلاقي ويُعزّز من روح التسامح والمحبة داخل الأسرة والمجتمع.
الدعاء يُعلّم أفراد الأسرة الصبر على الشدائد والتوكّل على الله، بدلاً من الجزع واليأس، مما يعزّز الثبات النفسي والتوازن في المواقف الصعبة. وأيضا عندما يتعوّد أفراد الأسرة على الدعاء، يدركون ضعفهم أمام الله، فينمو فيهم خُلق التواضع ويتخلّصون من الكِبر والعُجْب. من خلال الأدعية التي تتضمّن طلب المغفرة والعفو، يتعلّم أفراد الأسرة تقبّل الزلّات وغفران أخطاء الآخرين، مما ينعكس على علاقتهم ببعضهم البعض.
لهذا قررنا أن نسلّط الضوء على البُعد التربوي لدعاء عرفة ونتأمّل في بنيته المعنوية ونستكشف دوره في غرس الأخلاق الفاضلة في أفراد الأسرة.
الشكر والحمد على النعم الإلهية
إنّ التأمُّل في حياة الإنسان وما يحيط به من خير وبركة، يُظهر بوضوح أنّه غارق في نِعَمٍ لا تُعدّ ولا تُحصى، ماديةً كانت أو معنوية. وقد أكّد القرآن الكريم أنّ الإنسان لا يستطيع إحصاء هذه النِعَم حيث قال في آيتين من القرآن: ﴿ إِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ﴾ (2). لذا فإنّ من واجب الإنسان تجاه هذه النِعَم أن يعترف بها، ويحمد المنعم ويشكره، لا بلسانه فحسب، بل بقلبه وجوارحه وسلوكه في الحياة. وإلى هذا أشار الإمام الحسين عليه السلام في بداية دعاء عرفة حينما يحمد الله سبحانه وتعالى بقوله: « الحَمْدُ للهِ الَّذِي لَيْسَ لِقَضائِهِ دافِعٌ وَلا لِعَطائِهِ مانِعٌ وَلا كَصُنْعِهِ صُنْعُ صانِعٍ وَهُوَ الجَوادُ الواسِعُ ، فَطَرَ أَجْناسَ البَدائِعِ وَأَتْقَنَ بِحِكْمَتِهِ الصَّنائِعِ وَلا تَخْفى عَلَيْهِ الطَلائِعِ وَلا تَضِيعُ عِنْدَهُ الوَدائِعُ جازي كُلِّ صانِعٍ وَرايِشُ كُلِّ قانِعٍ وَراحِمُ كُلِّ ضارِعٍ مُنْزِلُ المَنافِعِ وَالكِتابِ الجامِعِ بِالنُّورِ السَّاطِعِ وَهُوَ لِلدَّعَواتِ سامِعٌ وَللْكُرُباتِ دافِعٌ وَلِلْدَّرَجاتِ رافِعٌ وَلِلْجَبابِرَةِ قامِعٌ ؛ فَلا إِلهَ غَيْرُهُ وَلا شَئ يَعْدِلُهُ وَلَيْسَ كَمِثْلِهِ شَئ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَئ قَدِيرٌ... فَلَکَ الْحَمْدُ دآئِماً وَلَکَ الشُّکْرُ واصِباً اَبَداً» (3).
كيف نمارس الشكر في أجواء العائلة؟
الشكر لله تعالى خلقٌ عظيم من أخلاق الإيمان، وهو مفتاح البركة والرضا والسعادة في الدنيا والآخرة. وقد بيّن القرآن الكريم أنّ الشكر سببٌ لدوام النعم وزيادتها حينما قال: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ﴾ (4). فعلى الأبوين أن يكونا أوّل من يُمارس الشكر قولًا وفعلًا. فحين يرى الأبناء والديهم يشكرون الله عند الطعام، وعند السلامة من المرض، وعند أيّ خير، يتعلّمون ذلك. وأيضا من المهم ربط المناسبات السعيدة مثل نجاح أحد الأبناء، شفاء مريض، زيارة الأقارب بالشكر لله. فهذا يجعل الشكر عادة راسخة في سلوك الأسرة. ولهذا نقرء في دعاء عرفة: « فَاِنْ دَعَوْتُكَ اَجَبْتَني وَاِنْ سَئَلْتُكَ اَعْطَيتَني وَاِنْ اَطَعْتُكَ شَکَرْتَني وَاِنْ شَکَرْتُكَ زِدْتَني » (5).
الخشية من الله والرضا بقضاء الله والإخلاص في الأعمال
الخشية هي خوفٌ نابع من المعرفة بعظمة الله وجلاله، وهي تختلف عن الخوف العادي؛ لأنها مصحوبة بالتقدير والمحبة والتسليم. الرضا هو أن يقبل الإنسان ما قدّره الله له من خير أو شر، دون سخط أو اعتراض، بل بقلب مطمئن، موقن بعدل الله وحكمته. الإخلاص هو تصفية النية، وتوجيه العمل كله لله تعالى دون رياء أو طلب مديح الناس، وهو روح العبادة وسرّ القبول. هذه القيم الثلاثة ليست منفصلة بل مرتبطة بالبعض. فمن خشي الله، أخلص أعماله له. ومن رضي بقضاء الله كان قلبه مطمئنًا، فابتعد عن الرياء. ومن أخلص لله، رضي بكلّ ما يأتي منه. وإلى هذا أشار الإمام الحسين عليه السلام: « اَللّهُمَّ اجْعَلْني اَخْشاكَ کَانّي أَراكَ وَاَسْعِدْني بِتَقويكَ وَلا تُشْقِني بِمَعْصِيتِكَ وَخِرْلي في قَضآئِكَ وَبارِكْ لي في قَدَرِكَ حَتّي لا احِبَّ تَعْجيلَ ما اَخَّرْتَ وَلا تَاْخيرَ ما عَجَّلْتَ اَللّهُمَّ اجْعَلْ غِناي في نَفْسي وَالْيقينَ في قَلْبي وَالاْخْلاصَ في عَمَلي وَالنُّورَ في بَصَري وَالْبَصيرَةَ في ديني » (6).
اللجوء إلى الله في كلّ حال
اللجوء إلى الله يمنح الأسرة طمأنينة لا يزعزعها مرض أو ضيق ويهيّئ الأسرة نفسيًا وروحيًا لمواجهة المصاعب، دون يأس أو تفكك. الطفل الذي يرى أبويه يلجآن إلى الله في كل حال، يتربّى على الاعتماد على الله والثقة به. الأسرة التي تلجأ إلى الله في السراء والضراء، تبني جدارًا منيعًا أمام أزمات الحياة، وتربّي أبناءها على الثبات، والتقوى، والصبر، والرجاء. وهكذا نقرء في دعاء عرفة:« اللّهُمَّ ما أَخافُ فَاكْفِنِي وَما أَحْذَرُ فَقِنِي وَفِي نَفْسِي وَدِينِي فَاحْرُسْنِي وَفِي سَفَرِي فَاحْفَظْنِي وَفِي أَهْلِي وَمالِي فَاخْلُفْنِي وَفِيما رَزَقْتَنِي فَبارِكْ لِي وَفِي نَفْسِي فَذَلِّلْنِي وَفِي أَعْيُنِ النَّاسِ فَعَظِّمْنِي وَمِنْ شَرِّ الجِنِّ وَالاِنْسِ فَسَلِّمْنِي... وَإِلى غَيْرِكَ فَلا تَكِلْنِي إِلهِي إِلى مَنْ تَكِلُنِي إِلى قَرِيبٍ فَيَقْطَعُنِي أَمْ إِلى بَعِيدٍ فَيَتَجَهَّمُنِي أَمْ إِلى المُسْتَضْعِفِينَ لِي وَأَنْتَ رَبِّي وَمَلِيكُ أَمْرِي؟» (7).
طلب الحوائج من الله سبحانه
الإنسان في حياته مليء بالاحتياجات وكل هذه الحوائج لا يستطيع أحد أن يقضيها على الوجه الكامل إلا الله سبحانه وتعالى. ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ (8). فمن طلب حوائجه من الله، استغنى عن الخلق، ورفع رأسه بعزّة التوكل. ولهذانرى كثيرة طلب الحوائج في دعاء عرفة حيث يقول: « صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ وَأَعْطِنِي فِي هذِهِ العَشِيَّةِ أَفْضَلَ ما أَعْطَيْتَ وَأَنَلْتَ أَحَداً مِنَ العالَمِينَ مِنْ عِبادِكَ مِنْ نِعْمَةٍ تُولِيها وَآلاٍ تُجَدِّدُها وَبَلِيَّةٍ تَصْرِفُها وَكُرْبَةٍ تَكْشِفُها وَدَعْوَةٍ تَسْمَعُها وَحَسَنَةٍ تَتَقَبَّلُها وَسَيِّئَةٍ تَتَغَمَّدُها ...» (9).
هذه كانت جملة من المعارف التربوية للأسرة الدينية من دعاء عرفة. وأعلموا أن يوم عرفة فرصة استثنائية للتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بهذا الدعاء. إذا توفقتم بقراءة هذا الدعاء، أكتبوا لنا المعارف التربوية التي استفدتم من هذا الدعاء العظيم حتى نتعلم منكم.
1) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 344 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران – الطبعة: 1.
2) سورة ابراهيم / الآية: 34. وسورة النحل / الآية: 18.
3) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 345 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران – الطبعة: 1.
4) سورة ابراهيم / الآية: 7.
5) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 346 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران – الطبعة: 1.
6) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 348 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران – الطبعة: 1.
7) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 348 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران – الطبعة: 1.
8) سورة غافر / الآية: 60.
9) مفاتيح الجنان (للشيخ عباس القمي) / المجلد: 1 / الصفحة: 353 / الناشر: مجمع إحياء الثقافة الإسلامية – طهران – الطبعة: 1.
التعلیقات