رسالة السبي: لماذا اصطحب الإمام الحسين عليه السلام أهل بيته إلى كربلاء؟
دروس من واقعة الكربلاء
منذ 4 أيامقد يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: كيف يمكن لرجل يعلم أنه ذاهب إلى الموت، أن يأخذ معه نساءه وأطفاله؟ أليس الأولى أن يتركهم في مأمن بعيدًا عن الخطر؟
لكن عندما ننظر بعين القلب والإيمان، ندرك أن في هذا القرار حكمة ورسالة. إن أسر أهل بيت النبوة لم يكن مجرد حدث مأساوي، بل كان جزءًا من تخطيط إلهي عظيم، كشف زيف بني أمية، وفضح ادّعاءاتهم بالدفاع عن الدين.
فما السرّ في هذا القرار العجيب؟ ولماذا أراد الإمام عليه السلام أن تكون زينب وسكينة وأم كلثوم عليهن السلام وسائر النساء حاضرات في كربلاء؟ أكان في ذلك إيصالٌ لرسالةٍ مدوّية، أم أداء دور بعد الاستشهاد؟
في هذا المقال، نفتح معًا أبواب هذه الحكاية المؤلمة والعظيمة، ونقترب خطوة من فهم سرّ اصطحاب الإمام الحسين عليه السلام لأهل بيته في مسيره إلى كربلاء.
القضاء الإلهي:
كيف يمكن لإنسانٍ يعرف أن طريقه سينتهي بالذبح، أن يصرّ على الرحيل؟ وكيف يرضى أن تأسره يد العدو، ويُسبى أهل بيته، دون أن يتراجع خطوة واحدة؟ هذه ليست قصة رجلٍ هارب من خطر، بل هي حكاية عبدٍ مُسلِّم أمره لقضاء الله، عالمٍ أن الموت ليس نهاية الطريق، بل بداية الرسالة. لم يكن خروج الإمام الحسين عليه السلام مجرد قرار شخصي، بل نداءٌ من السماء، وامتثالٌ لأمر إلهي أراده الله، ليُبعث الإسلام حيًّا من جديد بدمه ودموع أهله. فهل تود أن تعرف كيف أجاب الحسين نداء السماء؟ اقرأ هذه الرواية المؤثرة التي نقلها لنا التاريخ، لنكتشف معًا أن كل خطوة خطاها كانت بوحي، وكل دمعة ذُرفت كانت جزءًا من مشيئة الله سبحانه وتعالى.
جاء محمد ابن الحنفية إلى الحسين عليه السلام في الليلة التي أراد الحسين الخروج في صبيحتها عن مكة فقال له: « يا أخي إن أهل الكوفة قد عرفت غدرهم بأبيك وأخيك، وقد خفت أن يكون حالك كحال من مضى، فان رأيت أن تقيم فإنك أعز من بالحرم وأمنعه، فقال: يا أخي قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم، فأكون الذي يستباح به حرمة هذا البيت، فقال له ابن الحنفية: فان خفت ذلك فصر إلى اليمن أو بعض نواحي البر فإنك أمنع الناس به، ولا يقدر عليك أحد، فقال: أنظر فيما قلت.
فلما كان السحر، ارتحل الحسين عليه السلام فبلغ ذلك ابن الحنفية فأتاه فأخذ بزمام ناقته - وقد ركبها - فقال: يا أخي ألم تعدني النظر فيما سألتك؟ قال: بلى قال: فما حداك على الخروج عاجلا؟ قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله بعد ما فارقتك فقال: يا حسين اخرج فان الله قد شاء أن يراك قتيلا فقال محمد ابن الحنفية: إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذا الحال؟ قال: فقال [لي صلى الله عليه وآله]: إن الله قد شاء أن يراهن سبايا، فسلم عليه ومضى » (1).
كتب العلماء في حكمة هذا الموقف أن الإمام عليه السلام كان يعلم بأنّ بني أمية قد عزموا على هدم الإسلام والإنسانية، لكنهم كانوا يُخفون ذلك تحت قناعٍ مزيف من الدفاع عن الدين، ووحدة الأمة، ومحاربة "مخالف خليفة رسول الله ومُفرِّق الجماعة".
وكان لا بد من إسقاط هذا القناع وكشف وجه بني أمية الحقيقي، ليعرف الناس حقيقتهم، وتُسجَّل في التاريخ. ولهذا، كان لا بد أن تكون حركة الإمام عليه السلام خالية تمامًا من أي شبهة طلب للسلطة أو ميل للحرب، حتى لا يستطيع أحد أن يتّهمه بذلك.
ومن هنا، نرى أن الإمام عليه السلام، منذ لحظة خروجه من المدينة وحتى يوم شهادته، كان يُصرّح بوضوح أن نهاية هذه المسيرة هي الموت والشهادة، لكي لا ينضمّ إليه أحد طمعًا في حكمٍ أو غنيمة.
وقد اصطحب معه أهل بيته ونساءه وبناته، لكي يَظهر للناس بعد استشهاده، كيف سيتصرف هؤلاء الوحوش من بني أمية مع ذرية رسول الله وحرائره. وكان يريد للعالم أن يرى بوضوح أن من يدّعي الدفاع عن دين النبي وسنته ووحدة الأمة، لا يمتّ لا إلى الإسلام ولا إلى الإنسانية بصلة.
الإمام عليه السلام وضع أهل بيته عن وعي في طريق الأسر، لكي يسجّل التاريخ قبح أفعال شيعة بني أمية، ولا يُمكن بعد ذلك لأي أحد أن يُخفي هذه الصورة القبيحة خلف أقنعة الخداع والرياء.
وفي الوقت نفسه، كان هدفه أن يتمكن أهل بيته من نقل رسالته من كربلاء إلى الكوفة، ثم إلى الشام، ومنها إلى المدينة؛ تلك المراكز الثقافية والسياسية في العالم الإسلامي آنذاك، حتى لا تُدفن رسالته كما دُفن جسده الشريف في كربلاء، بل تبقى حيّة في قلوب الأمة وضمير التاريخ.
رسالة في قلب القصر
ليست قصة كربلاء مجرّد معركة انتهت باستشهاد الإمام الحسين عليه السلام، بل كانت بداية لرسالة عظيمة حملها الإمام السجاد عليه السلام، والعقيلة زينب عليها السلام وأخواتها، والأطفال الذين رافقوها.
لقد شاء الله تعالى أن تدخل بنات الوحي إلى قلب الحكم الأموي، إلى قصر يزيد نفسه، لتفضح الزيف، وتكشف القناع، وتهزّ أسس الباطل من الداخل. كانت مشيئة الله أن تُسبى زينب، لتتحوّل من سجينة في قصر الطغيان إلى منبر من نور، تزرع الوعي في قلوب الناس، وتقلب فرحة الشام إلى غضبٍ عارمٍ على يزيد، حتى بدأت علامات السقوط تلوح في أفق بني أمية.
ومن بين المشاهد التي هزّت وجدان الحاضرين، مشهد ذلك الرجل النصراني الذي حضر مجلس يزيد ورأى رأس الحسين عليه السلام مرفوعًا بين كؤوس الخمر… فماذا حصل؟
يروي الإمام زين العابدين عليه السلام أنه حين أُتي برأس الإمام الحسين عليه السلام إلى يزيد، كان الأخير يعقد مجالس الشرب واللهو، ويضع الرأس الطاهر أمامه متفاخرًا.
وذات يوم، دخل مجلسه رسولٌ من قِبَل ملك الروم، وكان رجلاً نصرانيًا من كبار القوم وأشرافهم. نظر إلى الرأس وسأل يزيد: "يا ملك العرب، هذا رأسُ مَن؟"
فقال يزيد: "ما شأنك بهذا الرأس؟"
أجابه الرجل: "حين أعود إلى ملكي، يسألني عن كل ما رأيت، وأحببت أن أخبره بقصة هذا الرأس حتى يشاركك الفرح!"
قال يزيد متبجّحًا: "هذا رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت رسول الله."
فتغيّر وجه النصراني، وقال بمرارة: "تبًّا لدينكم! أنا من نسل داوود عليه السلام، وبيننا عشرات الأجيال، ومع ذلك، يقدّسني النصارى، ويأخذون من تراب قدمي تبرّكًا بي، لأني فقط من نسله. وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم، الذي لا يفصله عن رسولكم سوى أمّه؟! أيّ دينٍ هذا؟!"
ثم أضاف مخاطبًا يزيد: "هل سمعتَ عن كنيسة الحافر؟"
فقال يزيد: "قل، لأسمع."
قال النصراني: "بين عمان والصين بحر طويل فيه جزيرة كبيرة، لا يملكها أحد سوى النصارى، وهي مليئة بالكنائس. أعظمها كنيسة الحافر، وفيها قطعة ذهبية يُقال إنها تحمل أثر حافر الحمار الذي كان يركبه عيسى عليه السلام. يطوف الناس بها، ويقبلونها، ويتبركون بها، ويطلبون حاجاتهم عندها. كل هذا لحافر دابة نبيّهم! وأنتم تقتلون ابن بنت نبيّكم! لا بارك الله فيكم ولا في دينكم!"
فأمر يزيد بقتله حتى لا يفضحه في بلاد الروم.
فقال له الرجل: "أتريد أن تقتلني؟ لقد رأيت نبيكم البارحة في المنام، وقال لي: يا نصراني، أنت من أهل الجنة."
ثم نطق الشهادتين، وقال: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله."
وانقضَّ على رأس الحسين عليه السلام، وضمه إلى صدره، يقبّله ويبكي حتى قُتل على يد جلاوزة يزيد. (2)
خُطبة هزّت الشام
ولم تكن زلزلة عرش يزيد مقتصرة على كلمة النصراني، بل جاءت الصاعقة الكبرى من قلب بيت النبوة، حين نهض الإمام زين العابدين عليه السلام في مجلس يزيد وخطب خطبةً رجّت أركان القصر، وكشفت للناس من هو الحسين، ومن هم أعداؤه، وبيّن نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله، وفضائل أهل البيت ومظلوميتهم. خطبة أيقظت قلوب الشاميين الذين كانوا قد زيّنوا شوارعهم لاستقبال أسرى كربلاء، فصاروا بعد الخطبة يبكون ويندبون، حتى تحوّلت الزينة إلى مأتم، والفرح إلى حزن، واضطُرّ يزيد المفضوح إلى إطلاق سراحهم.
خلاصة خطبة الإمام زين العابدين عليه السلام في مجلس يزيد
بعد إلحاح الناس، صعد الإمام زين العابدين عليه السلام منبر يزيد، رغم تردّده وخوفه من الفضيحة. بدأ الإمام خطبته بحمد الله، ثم قدّم نفسه للجمهور، مبيّنًا فضل أهل البيت عليهم السلام، فقال: "أُعطينا ستّاً وفُضّلنا بسبع..."، وذكر أنّه من نسل النبي محمد صلى الله عليه وآله، ومن أبناء مكة وزمزم وصفا، ومن سلالة علي وفاطمة والحسن والحسين.
ثم بدأ بتكرار جملة: " ابن مكة ومنى، زمزم والصفا، من طاف وسعى، من عُرج به إلى السماء"، في وصف نسبه الشريف ومكانة آبائه في الإسلام، حتى ضجّ الناس بالبكاء والنحيب.
ولما خشي يزيد من انقلاب الناس عليه، أمر المؤذن أن يقطع الخطبة. ولكن الإمام لم يسكت، بل علّق على كل جملة من الأذان، حتى بلغ المؤذّن: "أشهد أنّ محمداً رسول الله"، فقال الإمام:
"يا يزيد، هذا محمد جدّي أم جدّك؟ إن زعمتَ أنه جدّك فقد كذبت، وإن قلتَ إنه جدّي، فلِمَ قتلتَ عترته؟!" (3)
فكانت تلك الكلمات كالصاعقة التي أيقظت أهل الشام، وقلبت المجالس، وأسقطت هيبة يزيد.
1. اللهوف في قتلى الطفوف للسيد بن طاووس / الصفحة: 53 - 56.
2. : اللهوف في قتلى الطفوف للسيد بن طاووس / الصفحة: 112.
3. مقتل الحسین علیه السلام للخوارزمي / المجلد : 2 / الصفحة : 78.
التعلیقات