مسجد براثا في حديث الإمام علي عليه السلام: مشاهد من زمن الغيبة والظهور
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 4 ساعاتمن المحطات التاريخية والروحية المشرقة التي خلدها التاريخ الإسلامي ، وخصوصًا في ذاكرة أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، مسجد براثا ، الذي يقع في أطراف بغداد ، ويُعدّ من المساجد المعظمة التي ارتبطت بسيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، ومن ثمّ بالملاحم المستقبلية التي تحدّث عنها في زمن الغيبة وانتظار الظهور المبارك للإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.
إن هذه البقعة المباركة لم تكن مجرّد محطة عابرة ، بل حُفرت في وجدان المؤمنين من خلال ما رُوي من حديث قدسي بين أمير المؤمنين عليه السلام وراهب نصراني ، يكشف لنا فيها الإمام عليه السلام عن تفاصيل غيبية شديدة الدقة ترتبط بزمن ظهور الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وعن مستقبل المدن الإسلامية الكبرى ، ومن بينها بغداد ، والكوفة ، والبصرة ، وواسط.
في هذه المقالة ، نسلّط الضوء على هذه الرواية المهمة التي نقلها السيد ابن طاووس في كتابه القيم « اليقين في اختصاص مولانا علي عليه السلام بإمرة المؤمنين » ، مع توضيح معانيها واستجلاء أبعادها العقدية والتاريخية ، دون المساس بأصل الرواية التي ننقلها كاملة كما وردت ، لنتأمل بعدها في دلالاتها العميقة.
الرواية الكاملة كما وردت :
بأسناده عن محمد بن القاسم عن أحمد بن محمد عن مشايخه عن سليمان الأعمش عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال : حدثني أنس بن مالك وكان خادم رسول الله صلى الله عليه وآله ، قال : لما رجع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من قتال أهل النهروان نزل براثا (1) ، وكان بها راهب في قلايته (2) وكان اسمه الحباب. فلما سمع الراهب الصيحة والعسكر أشرف من قلايته إلى الأرض ، فنظر إلى عسكر أمير المؤمنين عليه السلام. فاستفظع ذلك ونزل مبادرا ، قال : من هذا ومن رئيس هذا العسكر ؟ فقيل له : هذا أمير المؤمنين عليه السلام وقد رجع من قتال أهل النهروان. فجاء الحباب مبادرا يتخطى الناس حتى وقف على أمير المؤمنين عليه السلام فقال : السلام عليك يا أمير المؤمنين حقا حقا.
فقال له : وما علمك بأني أمير المؤمنين حقا حقا ؟
قال له : بذلك أخبرنا علمائنا واحبارنا. فقال له : يا حباب.
فقال له الراهب : وما علمك بإسمي ؟ فقال: اعلمني بذلك حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال له الحباب مد يدك لأبايعك ، فانا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ، وإنك علي بن أبي طالب وصيه.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : وأين تأوي ؟ فقال : أكون في قلاية لي هيهنا. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : بعد يومك هذا لا تسكن فيها ولكن ابن هيهنا مسجدا وسمه باسم بانيه. فبناه رجل اسمه براثا فسمي المسجد ببراثا باسم الباني له. ثم قال : ومن أين تشرب يا حباب ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، من دجلة هيهنا. قال : فلم لا تحفر هيهنا عينا أو بئرا ؟ فقال له : يا أمير المؤمنين ، كلما حفرنا بئرا وجدناها مالحة غير عذبة. فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : إحفر هيهنا بئرا. فحفر فخرجت عليهم صخرة لم يستطيعوا قلعها. فقلعها أمير المؤمنين ، فانقلعت عن عين أحلى من الشهد وألذ من الزبد.
فقال له : يا حباب ، يكون شربك من هذه العين. أما أنه يا حباب ستبني إلى جنب مسجدك هذا مدينة ، وتكثر الجبابرة فيها ويعظم البلاء حتى أنه ليركب فيها كل ليلة جمعة سبعون ألف فرج حرام. فإذا عظم بلائهم سدوا على مسجدك بقنطرة ثم وابنه مرتين ثم وابنه لا يهدمه إلا كافر فإذا فعلوا ذلك منعوا الحج ثلاث سنين واحترقت خضرهم وسلط الله عليهم رجلا من أهل السفح لا يدخل بلدا إلا أهلكه وأهلك أهله. ثم ليعد عليهم مرة أخرى ، ثم يأخذهم القحط والغلا ثلاث سنين حتى يبلغ بهم الجهد. ثم يعود عليهم ، ثم يدخل البصرة فلا يدع فيها قائمة إلا سخطها وأهلكها واهلك أهلها ، وذلك إذا عمرت الخربة وبنى فيها مسجد جامع فعند ذلك يكون هلاك أهل البصرة. ثم يدخل مدينة بناها الحجاج يقال لها واسط فيفعل مثل ذلك ، ثم يتوجه نحو بغداد فيدخلها عفوا. ثم يلتجئ الناس إلى الكوفة ، ولا يكون بلد من الكوفة إلا تشوش له الأمر. ثم يخرج هو والذي أدخله بغداد نحو قبري لينبشه فيتلقاهما السفياني فيهزمهما ثم يقتلهما. ويتوجه جيش نحو الكوفة فيستعبد بعض أهلها. ويجئ رجل من أهل الكوفة فيلجئهم إلى سور فيمن لجأ إليها أمن. ويدخل جيش السفياني إلى الكوفة فلا يدعون أحدا إلا قتلوه ، وإن الرجل منهم ليمر بالدرة المطروحة العظيمة فلا يتعرض لها ويرى الصبي الصغير فيلحقه فيقتله. فعند ذلك يا حباب يتوقع بعدها ، هيهات هيهات ، وأمور عظام وفتن كقطع الليل المظلم ، فاحفظ عني ما أقول لك يا حباب » (3).
تحليل مضمون الرواية ومضامينها المهدوية
إن هذه الرواية تكشف عن ثلاث مراحل كبرى ذات أبعاد عقائدية:
1. كرامة أمير المؤمنين عليه السلام
يتجلى في معرفة اسم الراهب دون سابق لقاء ، وفي قلع الصخرة التي عجز عنها الجميع ، وفتح عين ماء حلوة ، ما يدل على مقامه الإلهي ومعجزاته. كما تُبرز الرواية تأثير شخصية الإمام علیه السلام في هداية الناس.
2. تأسيس مسجد براثا
يُؤمر الراهب ببناء مسجد مكان قلايته ، مما يجعل المسجد شاهداً على التحول من الظل إلى النور ، ومن الرهبنة إلى الإسلام. ولهذا المسجد مكانة خاصة في قلوب الشيعة ، وقد تعرّض للهدم مرارًا لكنه بقي شامخًا.
3. علامات الظهور المهدوي
تنفرد هذه الرواية بذكر علامات تفصيلية ، منها:
انتشار الفواحش في بغداد حتى يصبح فيها كل ليلة جمعة "يركب سبعون ألف فرج حرام".
ظهور القحط والغلاء ، ومنع الحج لثلاث سنوات.
دخول السفياني وتخريب البصرة وواسط.
نبش قبر أمير المؤمنين عليه السلام ، لكن السفياني يهزم الفاعلين.
مجازر في الكوفة يقتل فيها الأطفال بوحشية.
كل ذلك يعكس الاضطرابات التي تسبق الظهور الشريف ، ويُبيّن أن براثا ستكون في قلب الأحداث الكبرى.
الخاتمة
إن رواية مسجد براثا التي نُقلت عن أمير المؤمنين عليه السلام تشكل وثيقة نبوية فريدة في ملامحها وتفصيلها ، فهي ليست مجرد قصة تحوّل راهب إلى الإسلام ، بل هي نبوءة كبرى تربط بين كرامة علي بن أبي طالب عليه السلام وظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه.
من خلالها نُدرك أن التاريخ ليس فقط سردًا لما مضى ، بل هو رسم لما سيأتي ، وها هو مسجد براثا يشهد من جديد أنه ليس مجرد بناء حجري ، بل هو علامة على الإيمان والصبر والتمهيد للعدل الإلهي القادم.
فلنكن كما أراد الإمام عليه السلام: حُفّاظًا للوصايا ، متأملين في الآيات ، مستعدين لما هو آت ، منتظرين لظهور الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف بقلوب عامرة بالإيمان ، وعقول مدركة لمعاني الفتن القادمة.
الهوامش
1. قال في مراصد الإطلاع : براثا - بالمثلثة والقصر - محلة كانت في طرف بغداد في قبلي الكرخ وبني بها جامع كانت تجتمع فيه الشيعة ويسبون الصحابة فيه. فأخذ الراضي من وجد فيه وهدمه ، ثم أعاده بحلم وسعة. وكتب أسم الراضي في صدره واقيمت به الجمعة إلى ما بعد سنة الخمسين وأربعمائة. ثم قطعت منه وخرب وآثاره إلى الآن باقية.
2. قال المجلسي رحمه الله : قلاية معرب كلاية من بيوت عبادة النصارى.
3. اليقين في اختصاص مولانا علي عليه السلام بإمرة المؤمنين / السيد ابن طاووس رضى الدين علي الحلي / المجلّد : 1 / الصفحة : 422.
التعلیقات