حديث الإمام الحسن العسكري عليه السلام في توضيح الغيبـة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 3 أسابيعكان الإمام الحسن العسكري عليه السلام يهيئ شيعته نفسياً للمرحلة القادمة التي ستحدث بعد شهادته ، وهي مرحلة الشك والاضطراب. علم الإمام بما سيحدث من انقسام دليل على إحاطته بعلم ما سيكون ، وهو امتداد لمقام الإمامة الذي يشمل الإخبار عن الغيب بإذن الله. الاختلاف المشار إليه لم يكن فقط نظرياً ، بل ظهر عملياً عندما انقسم الناس بعد شهادة الإمام الحسن العسكري عليه السلام إلى عدة مواقف بشأن ولده الإمام المهدي عليه السلام ، فمنهم من قال بانقطاع الإمامة ، ومنهم من ادعى خلافة غيره ، ومنهم من تمسك بحقه مع قلة ظهوره.
هذا الاختلاف كشف عن هشاشة بعض العقائد ، وأظهر أن الإيمان الحقيقي بالإمامة لا يكفي فيه الادعاء بل يحتاج إلى رسوخ ويقين. ومن هنا جاء التحذير من الافتتان، لأن الابتلاء الحقيقي يظهر عند غياب الإمام عن الأنظار.
غيبة الإمام: التحدي والتمسك بالعقيدة الحقّة
من أبرز معالم العقيدة الإسلامية لدى الشيعة الإمامية هو الإيمان بالإمام الثاني عشر الحجة بن الحسن المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، الذي يعيش غيبة طويلة حتى يأذن الله له بالظهور لإقامة العدل وبسط الحق. هذه الغيبة التي اختبر الله بها عباده ، جعلت من التمسك بالعقيدة الإمامية تحدياً كبيراً في وجه المحن والشكوك.
ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام حديث يصف حالة الأمة بعد رحيله وولادة ولده المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ، حيث ورد عن موسى بن جعفر بن وهب البغدادي قال : سمعت أبا محمد الحسن بن علي عليه السلام يقول : « كَأَنِّي بِكُمْ وَ قَدِ اخْتَلَفْتُمْ بَعْدِي فِي الْخَلَفِ مِنِّي ، أَمَا إِنَّ الْمُقِرَّ بِالْأَئِمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله الْمُنْكِرَ لِوَلَدِي ، كَمَنْ أَقَرَّ بِجَمِيعِ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ ، ثُمَّ أَنْكَرَ نُبُوَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ، وَ الْمُنْكِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله ، كَمَنْ أَنْكَرَ جَمِيعَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ طَاعَةَ آخِرِنَا كَطَاعَةِ أَوَّلِنَا ، وَ الْمُنْكِرَ لِآخِرِنَا كَالْمُنْكِرِ لِأَوَّلِنَا ، أَمَا إِنَّ لِوَلَدِي غَيْبَةً يَرْتَابُ فِيهَا النَّاسُ إِلَّا مَنْ عَصَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ » (1).
اشارة الإمام العسكري عليه السلام للغيبة
يمثل حديث الإمام الحسن العسكري عليه السلام المروي عن طريق موسى بن جعفر بن وهب البغدادي نصاً جوهرياً في فهم مسألة الغيبة الكبرى وما يرتبط بها من ابتلاءات عقدية داخل الأمة الإسلامية. هذا الحديث لا يتناول فقط الغيبة بوصفها حدثاً مستقبلياً ، بل يكشف بوضوح عن عمق الارتباط بين الإيمان بالإمامة والإيمان بالنبوة ، ويرسم خطاً واضحاً في اختبار الولاء والطاعة ، ويضع الأمة أمام مسؤولياتها في زمن الفتنة.
في هذا الحديث الشريف ، يربط الإمام بين الإيمان بجميع الأئمة والطاعة الكاملة لله ورسله ، موضحًا أن إنكار أي إمام هو إنكار لمن سبقوه من أئمة الأنوار ، بل إنكار لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. كما يشير إلى غيبة الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه وارتباك الناس خلالها ، إلا من كان متسلحاً بالإيمان والعصمة من الشبهات.
ضرورة التمسك بالعقيدة في زمن الغيبة
تمر الأمة في زمن الغيبة بتحديات شتى ؛ من افتقاد القائد المباشر إلى انتشار الشكوك في وجود الإمام نفسه. غير أن الروايات النبوية وأحاديث الأئمة عليهم السلام تواترت لتؤكد ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه وغيبته الكبرى ، كما جاء في الروايات المتظافرة التي جمعتها المصادر الإمامية.
ومن هنا، يتحتم على المؤمنين التمسك بالعقيدة الحقّة ، التي تنص على أن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف هو الحجة المعصوم المكلف بإقامة العدل الإلهي عند ظهوره ، وأن طاعته واجبة كطاعة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الإيمان بالغيب: اختبار للقلوب
إن غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف تمثل اختباراً إلهياً للقلوب والإيمان. فقد قال الله تعالى: ﴿ الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ (2).
وقد روى الحافظ سليمان القندوزي (الحنفي) في كتابه ينابيع الموده عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: « دخل جندل بن جنادة بن جبير اليهودي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ، وسئله عن عدة أمور فأجابه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وفي حينها اسلم على يديه ومن ثم سئل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله عن أوصيائه ، فعدهم له ، إلى أن قال صلى الله عليه وآله : ... فبعده ابنه محمد يدعى بالمهدي و القائم و الحجة ، فيغيب ثم يخرج ، فاذا خرج يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت جورا و ظلما ، طوبى للصابرين في غيبته ، طوبى للمقيمين على محبّتهم ، أولئك الذين وصفهم اللّه في كتابه ، و قال : ﴿ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ (3) ، ثم قال تعالى : ﴿ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ (4) ، فقال جندل : الحمد للّه الذي وفقني بمعرفتهم » (5).
إن هذا الحديث الشريف يكشف عن عظمة مقام الانتظار والوفاء بالعهد في زمن الغيبة ، حيث لا يقف الإيمان الحقيقي عند حدود المشاهدة والمحسوس ، بل يمتد إلى التسليم الكامل بوعد الله وصدق أنبيائه وأوصيائه. فالإيمان بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف خلال غيبته يعد جزءاً من الإيمان بالغيب الذي يميز المتقين عن غيرهم ، إذ إن المؤمن الحق هو من يتجاوز ظاهر المحسوسات ويثبت على يقين راسخ قائم على البراهين والنصوص الشرعية ، فينال بذلك بشارتَي الهدى والفلاح.
أدلة الغيبة والولادة
الروايات التي تثبت ولادة الإمام المهدي وغيبته متواترة في كتب الحديث ، ومنها ما ورد عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام حين بشّر بولادة ولده المهدي قبل استشهاده. ومما يدعم هذه الروايات ، الاعتقاد بأن الأرض لا تخلو من حجة لله ، وأنه لولا الإمام لانعدمت الحياة الروحية للخلق.
مسؤوليتنا تجاه الإمام المهدي عجل الله فرجه الشريف
الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف هو أمل المستضعفين ومنار التوحيد الذي ينتظر ظهوره كل من آمن بالعدل الإلهي. في زمن غيبته ، تقع على عاتقنا مسؤولية التمسك بالعقيدة ، نشرها ، ومواجهة الشبهات التي تحيط بها.
الإيمان بالإمام المهدي عجل الله فرجه ليس مجرد تصديق بوجوده ، بل هو التزام عملي بالاستعداد لظهوره والتمسك بأوامر الله سبحانه وتعالى وأحكام دينه. علينا أن نتضرع إلى الله أن يعجل بفرجه ، وأن نكون من أنصاره وأعوانه ، ممن يمهدون له الطريق ليقيم عدل الله في الأرض.
اللهم اجعلنا من المنتظرين لإمامنا ، والملتزمين بنهج أهل البيت عليهم السلام ، ووفقنا لنكون من جنوده يوم ظهوره.
الهوامش
1. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 409.
2. سورة البقرة : الآية 1 – 3.
3. سورة البقرة : الآية 2 – 3.
4. سورة المجادلة : الآية 22.
5. ينابيع المودة لذوي القربى / سليمان بن ابراهيم القندوزي / المجلّد : 3 / الصفحة : 285.
التعلیقات