العفّة في العلاقاتِ الجنسيّة
الحياة الزوجية
منذ 5 ساعاتفي عالمٍ يمتلئ بالمؤثّراتِ الاجتماعيّة والإعلاميّة التي تحاول رسمَ صورةٍ مشوَّهة عن العلاقة بين المرأة والرجل، تصبحُ العودةُ إلى القيم الرفيعة، مثل العفّة وضبط النفس، حاجةً أساسيّة لكلّ امرأةٍ وفتاة. فالعفّة ليست قيداً ولا ثقلاً، بل هي حمايةٌ للروح، وصونٌ للكرامة، وبناءٌ لثقةٍ داخليّة تمنحُ المرأةَ قوّتها الحقيقيّة.
إنّ فهم الغريزة الجنسيّة بوصفها جزءاً طبيعياً من تكوين الإنسان، ومعرفةُ الطُّرق الصحيحة لتوجيهها، يُساعد المرأة اليوم على أن تعيش توازناً نفسيّاً وعاطفيّاً بعيداً عن الضغوط ومحاولات الاستغلال. وهذه المقالة تسعى لتقديم رؤية واضحة وهادئة حول معنى العفّة، وأثرها في بناء حياةٍ أكثر صحّة وطمأنينة، مستنيرةً بتعاليم الإسلام وتجارب الأديان والثقافات المختلفة.
مكانة الغريزة الجنسيّة في خلق الإنسان
إنّ الغريزةَ الجنسيّةَ هي إحدى الغرائز التي أودعها اللهُ الحكيمُ في وجودِ الإنسان.
هذه الغريزة ليست أمراً مضرّاً ولا عبثيّاً ولا عديمة الفائدة، بل وُضعت عن حكمةٍ إلهيّة، ولها فوائدُ وثمراتٌ متعدّدة.
ومن أهمّ فوائدِ وجود هذه الغريزة بقاءُ الإنسان وحفظُ نسلِه.
فلولا وجود هذه الرغبة في الإنسان لانقطع نسلُ البشر وفَنُوا عن وجه الأرض.
وكما أنّ الإنسان لو لم تكن له رغبةٌ في الطعام، أو لم يستفد من هذه الرغبة، لأهلكه الجوعُ وأسقطه.
كذلك لو لم توجد فيه الرغبةُ والميولُ الجنسيّة لانقطع نسلُه ولم يَبْقَ له امتداد.

تنظيم الغريزة في الإسلام وأمرُ الزواج
إنّ الله تعالى لم يَعُدَّ هذه الغريزةَ مذمومةً، ولم يَعتبرْها عديمةَ الفائدة. بل بيَّن أيضاً الطريقَ الصحيحَ لإشباعِها وتوجيهِها توجيهاً سليماً، وأمر المسلمين والمجتمعَ الإسلاميّ أن يسعَوا في أمرِ تزويجِ غير المتزوّجين، وأن يعملوا على توفيرِ أسبابِ الزواجِ لهم، حيث قال تعالى: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) (1).
والأمرُ بالزواج ليس مؤكَّدًا في الإسلام فحسب، بل تؤكِّدُ أديانٌ أخرى أيضًا، كاليهوديّة، على الزواج، وتعدّه الحالةَ المثاليّةَ للرجل.
فالحاخاماتُ يقولون إنّ روحَ القدس لا تحلّ إلا على الرجل المتزوّج؛ لأنّ الرجلَ الأعزبَ ناقص، وروحَ القدس لا تحلّ على ناقص.
والمسيحيّون أيضاً، مع أنهم يؤكّدون على العزوبة ويعدّونها مرتبةً عالية، وخاصةً من جهة أنّ عيسى عليه السلام نفسه لم يتزوّج، إلّا أنّهم يعتقدون أنّ الله جعل الزواج وسيلةً لتنظيم العلاقة المناسبة بين النساءِ والرجال، ولتهيئةِ أفضلِ بيئةٍ لتربيةِ الأبناء في المجتمع.
إفراطٌ وتفريطٌ في التعامل مع الغريزة
ومع ذلك، كان التعاملُ مع هذه الغريزة، ولا يزال، يسلك في بعض الأحيان طريقَ الإفراطِ أو التفريط، فيمكن رؤيةُ نموذج التفريط في بعض الأوساط الدينيّة المسيحيّة، حيث يُعَدّ الجماعُ والعلاقةُ الجنسيّة بين رجال الدين والقدّيسين عملاً دنِساً ومذموماً.
وفي المقابل، تُعَدّ آراءُ فرويد ورَسِل حول الغريزة الجنسيّة نموذجَيْن بارزين للاتجاهِ المتطرّفِ في الإفراط.
قوّة الغريزة الجنسيّة وضرورةُ تربيتِها
وما هو مهمّ هنا، أنّ هذه الغريزة من أقوى الغرائز في الإنسان، ولا يستطيع أحد إنكارَ وجودِها. فمع أنّها تكونُ خفيّةً في مرحلة الطفولة، إلّا أنّها تَظهَر شيئاً فشيئاً في مرحلةِ المراهقةِ والبلوغ.
وهذه الرغبةُ تبحث شيئاً فشيئاً عن فرصةٍ لتظهرَ وتفرضَ نفسَها، فإذا لم يكن الفردُ خاضعاً لتربيةٍ صحيحة، قد تُسبّب له هذه الغريزةُ مشكلاتٍ كثيرة.
ولأجل الوقاية من هذه المشكلات ومن الإفراط في الغريزة الجنسيّة، بيّن الله تعالى أحكاماً وتوجيهات، ويُحذّر الناسَ من كلّ علاقةٍ جنسيّة محرّمة، سواءٌ كانت مع الجنسِ الآخر أم مع الجنسِ نفسه.
تحريم الزنا والاقتراب من مقدماته
وفي النوعِ الأوّل من هذه العلاقات المحرّمة يقول تعالى: ( وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا ) (۲).
في هذه الآية لم يَقُل: لا تزنوا أو لا ترتكبوا العلاقةَ المحرّمة، بل قال: لا تَقْرَبُوا الزِّنا، أي لا تقتربوا حتى من مقدّماته.
وهذا التعبير، إضافةً إلى ما فيه من تأكيدٍ على حرمة نفسِ الفعل، يشير بلطفٍ إلى أنّ الوقوعَ في هذه الفاحشة غالباً يسبقه المرورُ بسلسلةٍ من المقدّمات التي تُقرّب الإنسانَ منها شيئاً فشيئاً.
وتعبيرُ (إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً) يحمل أيضاً تأكيداً شديداً، إذ يُبرز عِظَمَ هذه المعصية الواضحة، ويُظهر أنّ قُبحَ هذا العمل صفةٌ ملازمةٌ له لا تنفكّ عنه.
وأمّا عبارةُ (ساءَ سَبِيلاً) فتبينُ أنّ هذا الفعلَ يفتح الطريقَ أمام مفاسدَ وذنوبٍ أخرى في المجتمع، ويُخلّ بالنظامِ الاجتماعيّ ويهدّد إنسانيّةَ الإنسان بالفناء والانهيار.
وليس هذا الفعلُ مرفوضاً في الإسلام وحده، بل قد ذُمَّ أيضاً في أديانٍ أخرى.
ففي اليهوديّة، يُعدّ تركُ الزنا واحداً من الوصايا العشر لموسى علیه السلام، أي في جزءٍ من التوراة يبيّن عدداً من المفاهيمِ الأساسيّة والعقائديّة في الدين اليهودي، جاء فيه أنّه لا يجوز لليهود أن يرتكبوا الزنا.
وحتى الأديانُ غيرُ السماويّة التفتت إلى هذه المسئلة أيضاً.
فمن ذلك ما هو موجودٌ عند الهندوس، حيث تُعتَبَر العفّةُ قبل الزواج، خصوصاً في الطبقات العليا، قيمةً عاليةً جدّاً.
وطرقُ إيجادِ العفّةِ وحفظِها في هذه الديانة متعدّدة، ولا يكتفون بالموعظةِ والكلام فقط، بل يُعاقَب مَن يرتكب هذه الأفعال في بعضِ الموارد، ويُطالَب بالتوبة أيضاً.
الانحرافاتُ الجنسيّة
ومن الانحرافات الجنسيّة الأخرى: المعاشرةُ الجنسيّة مع الجنسِ نفسه.
وهذه المعاشرةُ مخالفةٌ للفطرةِ الإنسانيّة. ففي الخِلقةِ الطبيعيّة والفطريّة، خُلِق الرجلُ للمرأة، وخُلِقت المرأةُ للرجل؛ كما يقول القرآن الكريم: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) (۳).
والمیولُ إلى الجنسِ نفسه، سواءٌ كان بين الرجال أو بین النساء، يُعَدّ من الكبائر في الإسلام، ويستحقّ الطرفانِ العقوبة.
ویقول الله تعالى في ذمّ هذه الفئة: (أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ) (۴).
وهذه الآيات موجّهةٌ إلى رجالِ قوم لوط الذين كانت لهم ميولٌ إلى مُعاشرةِ الذكور.
قصّةُ قومِ لوط وتحوّلِ المعصية إلى ظاهرة علنيّة
وقد عُرِضتْ قصّةُ هذا القومِ وفعلُهم القبيحُ في آياتٍ عديدةٍ من القرآن الكريم (۵).
وطبعاً، في كلّ موضعٍ يأتي التعبيرُ القرآنيّ بطريقةٍ مختلفة. وفي الحقيقة، يشير كلُّ واحدٍ من هذه التعابير إلى بُعدٍ من أبعادِ قُبحِ هذا الفعلِ المشين.
وارتكابُ هذا الذنب شيئاً فشيئاً يُضعِف شعورَ الإنسان بقُبحِه، إلى أن يبدو هذا العملُ في نظرهم عملاً عاديّاً.
فمن يُقدِم على هذا الفعل القبيح لأوّل مرّةٍ يحاول غالباً إخفاءَه، ويكون من الأشخاص الخجولين المنزوين.
ولكن إذا اتّسع نطاقُ هذا العمل وانتشر، صار يُعتبَر في نظرهم أمراً طبيعيّاً، بل يخرجون أحياناً في مسيراتٍ للمطالبةِ بمزيدٍ من الحقوق.
وهذا ليس أمراً غريباً، فإنّ قومَ لوط أيضاً بدأوا بهذا الفعلِ القبيح سرّاً، لكنّه تحوّلَ بالتدريج إلى ظاهرةٍ علنيّة، وصاروا يرتكبونه في المجالسِ العامّةِ وأماكنِ الترفيه، دون أن يشعروا بأيّ حياءٍ أو تحرّج.
الآثارُ المدمّرة للعلاقاتِ الشاذّة
ولأنّ هذا العملَ مخالفٌ للطبيعةِ الإنسانيّةِ وفطرتِها، فإنّ مثلَ هذه العلاقاتِ المحرّمة تترك آثاراً مدمّرةً في بُنيةِ الجسد، بل وفي الجهازِ العصبيّ والروح أيضاً.
فقد يُصاب هؤلاء الأشخاصُ بضعفٍ جنسيٍّ شديد، بل وقد يفقدون أحياناً القدرةَ على الإنجاب.
ولهذا السبب، إضافةً إلى الأسبابِ الأخلاقيّةِ والاجتماعيّةِ الأخرى، حرّم الإسلامُ الميولَ والعلاقاتِ الشاذّةَ في أيّ صورةٍ كانت، وفرض لها عقوباتٍ صارمة، بل قد يصل الحكمُ فيها في بعضِ الحالات إلى الإعدام.
والرواياتُ الواردةُ في ذمّ هذه العلاقات الشاذّة كثيرةٌ جدّاً ومزلزِلة، حتى إنّ كلَّ من يطّلع عليها يشعر بأنّ قُبحَ هذا الذنبِ من شدّتِه لا يكاد يوجد ذنبٌ آخرُ يبلُغ درجتَه.
عذابُ قومِ لوط في القرآن والسنّة
قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ : «لَمَّا عَمِلَ قَوْمُ لُوطٍ مَا عَمِلُوا بَكَتِ اَلْأَرْضُ إِلَى رَبِّهَا حَتَّى بَلَغَتْ دُمُوعُهَا اَلسَّمَاءَ، وَ بَكَتِ اَلسَّمَاءُ حَتَّى بَلَغَتْ دُمُوعُهَا اَلْعَرْشَ، فَأَوْحَى اَللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ إِلَى اَلسَّمَاءِ اِحْصُبِيهِمْ أَيْ اِرْمِيهِمْ بِالْحَصْبَاءِ، وَ هِيَ اَلْحِجَارَةُ وَ أَوْحَى اَللَّهُ إِلَى اَلْأَرْضِ أَنِ اِخْسِفِي بِهِمْ» (۶).
وفي النهاية، ابتُلِيَ قومُ لوطٍ بالعذابِ الإلهي.
وقد ذكر القرآنُ الكريم أنواعاً من العذاب نزلت بهم، مثل الصيحة، ومطرِ الحجارة، وقلبِ قراهم رأساً على عقب.
(وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (۷).
(فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ)(۸).
فضلُ العفّةِ الجنسيّة في الروايات
وقد وردت إلینا رواياتٌ كثيرةٌ في فضلِ العفّةِ الجنسيّة على وجهِ الخصوص.
فالإمامُ الباقر عليه السلام عَدَّها من أفضلِ العبادات، حيث يقول:
«ما عبد الله بشئ أفضل من عفة بطن وفرج» (۹).
وكذلك الإمامُ عليّ عليه السلام عدّ العفّةَ خيراً يُعطيه الله لعبدِه، فيقول:
«إذا أراد اللّه بعبد خيرا أعفّ بطنه عن الطّعام و فرجه عن الحرام » (١٠).
فالعفّةُ والطهارةُ، وخصوصاً في مرحلةِ الشباب، تُهيِّئان للإنسان سبيلَ الاستفادةِ من المواهِبِ الإلهيّةِ الخاصّة.
الخاتمة
تكشف لنا هذه الدراسة أنّ الغريزةَ الجنسيّة جزءٌ أصيل من طبيعة الإنسان، لكنّ توازنها لا يتحقّق إلا من خلال التوجيه الصحيح والعفّة الواعية. فالعفّة ليست مجرّد امتناع، بل هي قوّةٌ إراديّة تحمي المرأة والرجل من الانحرافات التي تُفسد النفس وتزعزع المجتمع.
وتُظهر القصصُ الدينيّة وتجاربُ الشعوب أن أيّ انحرافٍ عن الفطرة، سواءٌ كان زناً أو شذوذاً، يحمل آثاراً نفسيّة وجسديّة واجتماعيّة خطيرة. أمّا التمسّك بالعفّة، خصوصاً في مرحلة الشباب، فهو باب من أبواب النعمة الإلهيّة، ووسيلةٌ لحياةٍ مستقرةٍ ونقيّة.
إنّ بناء مجتمعٍ سليم يبدأ من احترام الإنسان لكرامته، وتعامله الواعي مع رغباته، واستنارته بالقيم التي تحفظه من الانحراف والضياع.
١. سورة النور : ٣٢.
٢. سورة الإسراء : ٣٢.
٣. سورة البقرة : ١٨٧.
٤. سورة الشعراء : ١٦٥ / ١٦٦.
٥. الأعراف : ٨١ / هود : ٨١ / هود : ٨٣ / الحجر : ٥٩–٦٣ / الأنبياء : ٧٤ / النمل : ٥٥ / العنكبوت : ٢٩.
٦. النور المبين في قصص الأنبياء والمرسلين / السيّد نعمة الله الجزائري / ج ١ / ص ١٣٩.
٧. سورة الشعراء : ١٧٣.
٨. سورة هود : ٨٢.
٩. وسائل الشيعة / الشيخ الحرّ العاملي / ج ١١ / ص ١٩٨ / الطبعة الإسلامية.
١٠. غرر الحكم ودرر الكلم / التميمي الآمِدي عبد الواحد بن محمد / ص ٢٨٩.









التعلیقات