آداب الطعام والمائدة في سنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم
السيد حسين الهاشمي
منذ 6 ساعاتمنذ أن خُلق الإنسان وجُعل له القوت غذاءً يقيم به جسده ويستعين به على عبادة ربّه، ظلّ الطعام أكثر من مجرد حاجة بيولوجية، بل تحوّل في وعي الشعوب إلى طقس اجتماعي وروحي يعكس هويّة الأمم وثقافاتها. غير أنّ الإسلام وهو دين الفطرة والكمال ارتقى بهذا الجانب الحياتي البسيط ليجعله ساحةً من ساحات الذكر والعبادة، وأدخله في دائرة الأخلاق والآداب الرفيعة. فقد قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴾ (1). وأيضا قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ (2).
ففي ظلّ هذه الأمور نتعلم أنّ مائدة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن مجرّد مكان يجتمع فيه الطعام، بل كانت مدرسة متكاملة يتعلّم منها المسلمون معنى التواضع، والاعتدال، والشكر، وحسن المعاشرة. على تلك المائدة النبويّة وُضعت القواعد التي تحوّل الأكل إلى عبادة، واللقمة إلى صدقة، والمشاركة إلى تعبير عن المحبّة والرحمة. لهذا قررنا أن نكتب لكم عن آداب الطعام والشراب والمائدة عند النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
الجوع خوفا من الله وعدم امتلاء البطن
من أعمق دروس التربية الروحية في الإسلام أن يجعل المؤمن حتى في طعامه عبادةً وتزكيةً لنفسه، لا مجرّد إشباعٍ لشهوة الجسد. ولذا روى الإمام الصادق عليه السلام: « ما كان شئ أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله من أن يظل جائعا خائفا في الله » (3).
الجوع في المنظور الإسلامي ليس عذاباً، بل مدرسة. إذ يُذكّر الإنسان بضعفه، ويجعله يستحضر حال الفقراء والمساكين، فيلين قلبه وتزداد رحمته، ويزول عن نفسه الكِبر والاستعلاء. إن امتلاء البطن يُثقل الروح ويقسو القلب، بينما الجوع المعتدل يفتح أبواب الفكر والذكر والخشوع. الجوع الذي يريده الإسلام ليس جوع وحرمان، بل جوع وعيٍ وخشية. أي أن يمتنع المؤمن عن الشبع المفرط خوفاً من أن يقسو قلبه أو يغفل عن ربه. في كل لقمة يضعها في فمه يتذكر أنّها نعمةٌ من الله، وأنّ شكرها يكون بالقناعة وعدم الإسراف. لهذا قال أميرالمؤمنين عليه السلام في جواب أسئلة اليهوديّ الشاميّ حيث قال له: فإنَّ عيسى عليه السلام يزعمون أ نّه كان زاهداً ؟ قال له عليّ عليه السلام: « كان كذلك، ومحمد صلى الله عليه وآله أزهد الأنبياء، كان له ثلاث عشرة نسوة، سوى من يطيف به من الإماء ما رفعت له مائدة قط وعليها طعام، وما أكل خبز بر قط، ولا شبع من خبز شعير قط ثلاث ليال متواليات » (4).
الأكل في حالة التواضع
إنّ الطعام ببساطته قد يتحوّل إلى ساحة اختبار للروح: هل تأكل تكبّراً وإسرافاً وشهوةً، أم تأكل تواضعاً وشكراً وخشوعاً لله تعالى؟ هنا يظهر مقام الإيمان، وتبرز حقيقة العبودية في أدقّ تفاصيل الحياة. فحالة التواضع في الأكل يجب أن يأخذ صورة جسمية وروحية معا. لأنّ الأمور الباطنية إذا انسجمت مع روح الشخص المؤمن، لا محالة تتبيّن في جسمه وأعماله الخارجية. فالمؤمن حين يجلس إلى الطعام، يستحضر أنّه لا حول له ولا قوة إلا بربه، وأن هذه اللقمة التي بين يديه قد حُرم منها كثيرون. هنا يولد في نفسه خُلق الشكر، وتلين جوارحه بالرحمة، ويتحوّل الطعام من عادة يومية إلى عبادة قلبية. لهذا روى الإمام الصادق عليه السلام: « ما أكل رسول الله صلى الله عليه وآله متكئا منذ بعثه الله عزوجل حتى قبضه، وكان يأكل أكلة العبد ويجلس جلسة العبد، قلت: ولم ؟ قال: تواضعا لله عزوجل » (5).
الأكل بالأصابع
في زماننا المعاصر، ارتبطت أدوات الطعام بمظاهر التقدّم والرقيّ، حتى صار الأكل بالملعقة والشوكة والسكين علامةً على التحضّر، بينما نُظر إلى الأكل بالأصابع على أنه عادة قديمة أو غير لائقة. غير أنّ المتأمل في سنّة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يجد أن الأكل بالأصابع لم يكن مجرد عادة اجتماعية، بل سلوكاً له أبعاد تربوية وصحية وروحية عميقة. فالأكل بالأصابع تذكّر أنّ كل لقمة رزق من الله، وأنّ البركة قد تكون فيما بقي من الطعام على اليد. الأكل بالأصابع يبعد الإنسان عن التكلف والرياء، ويعيده إلى بساطة الفطرة. حينما يلمس الطعام بيده، يتأمل قوامه وحرارته وكميته، فيأكل بوعي واعتدال. ومن هنا قال الإمام الصادق عليه السلام: « أنه صلى الله عليه وآله يجلس جلسة العبد، ويضع يده على الأرض، ويأكل بثلاثة أصابع، وقال عليه السلام: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يأكل هكذا، وليس كما يفعل الجبارون، كان يأكل بإصبعيه » (6).
لهذا النوع من الأكل آثار روحية ومعنوية فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: « إِذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَاماً فَمَصَّ أَصَابِعَهُ الَّتِي أَكَلَ بِهَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ » (7). بالإضافة إلى هذه الآثار المعنوية، هناك آثار دنيوية على الجسم التي تمّ إثباتها من قبل بعض الدراسات الحديثة. مثل أنّ ملامسة الطعام مباشرة تحفّز نهايات الأعصاب في أطراف الأصابع، ما يرسل إشارات للدماغ تُحسّن عملية الهضم وتزيد من إفراز اللعاب. أو إنّه حين نأكل بأصابعنا، نبطئ من سرعة الأكل تلقائياً، وهذا يمنح المعدة فرصة أفضل للهضم. وقد أثبت الطب أنّ على جلد الإنسان بكتيريا نافعة تساعد في حماية الجهاز الهضمي، وهي تتفاعل إيجابياً مع الطعام إذا أُكل باليد. لكن من المهم أن نتذكر الأمور الصحية ونتوجه إليها.
أكل الطعام مع القوم واستجابة دعوة الآخرين
كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستجيب لدعوة أصحابه مهما كانت بسيطة، فيجلس معهم على مائدة متواضعة، ويشاركهم الطعام بمحبة، ليعلّم الأمة أن قيمة الدعوة ليست في نوع الطعام أو كثرته، بل في صدق النية ودفء القلوب. لهذا ورد حول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: « كان النبي صلى الله عليه وآله يأكل الأصناف من الطعام، وكان يأكل ما أحل الله له مع أهله وخدمه إذا أكلوا ومع من يدعوه من المسلمين على الأرض، وعلى ما أكلوا عليه ومما أكلوا، إلا أن ينزل بهم ضيف فيأكل مع ضيفه، وكان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف - والضفف: كثرة الأيدي على الطعام - » (8).
إنّ الأكل مع القوم يُذهب وحشة النفس، ويُنمّي روح المودّة. فالطعام المشترك يوحّد القلوب، ويُذيب الفوارق، ويُشعر الجميع بالمساواة أمام نعمة الله. ولهذا قال الإمام الصادق عليه السلام: « كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا أكل مع القوم طعاما كان أول من يضع يده وآخر من يرفعها ليأكل القوم » (9).
التخلل بعد الطعام
علّمنا النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كيف نأكل، وأيضا علّمنا أيضاً كيف نحافظ على نظافة أفواهنا بعد الطعام، وذلك بما يُسمى التخلّل، أي تنظيف ما بين الأسنان بالعُويد أو السواك. هذه السنّة البسيطة تحمل في طيّاتها حكمةً بالغة، فهي عبادة، وصحة، وجمال، وأدب اجتماعي. فقد روي عن وهب بن عبد ربه: « رأيت أبا عبد الله عليه السلام يتخلل، فنظرت إليه فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله كان يتخلل وهو يطيب الفم » (10). وأيضا روي عن الإمام الصادق عليه السلام: « كان رسول الله صلى الله عليه وآله يتخلل بكل ما أصاب إلا الخوص والقصب » (11).
التسمية والحمد عند الأكل والشرب
كل لقمة إذا اقترنت بذكر الله، صارت نوراً في القلب، وبركة في الجسد، وشكراً عملياً للخالق الكريم. وقد روي حوله صلى الله عليه وآله وسلم: « كان إذا شرب بدأ فسمى ... وكان إذا أكل سمى» (12). فالتسمية في أول الطعام إعلان أن الرزق من الله، وأن العبد لا يملك لنفسه نفعاً ولا رزقاً إلا بعطاء ربّه. وهي درع من الشيطان، وبركة للمال والطعام، وتربية للنفس على أن لا تبدأ شيئاً إلا بذكر الخالق.
وقد ورد في بعض الروايات أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يسمي بين شربه للماء. فقد ورد عن أميرالمؤمنين عليه السلام: « تفقدت النبي صلى الله عليه وآله غير مرة، وهو إذا شرب تنفس ثلاثا، مع كل واحدة منها تسمية إذا شرب، وتحميد إذا انقطع، فسألته عن ذلك فقال: يا علي شكر الله تعالى بالحمد، وتسميته من الداء » (13).
هذه كانت جملة من آداب الطعام والشراب والسفرة في سنة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
في الأخير أريد منكم شيئا بسيطا. إبحثوا في الكتب الروائية والمواقع الشيعية عن روايات أخرى حول آداب الطعام والشراب عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وأكتبوها لنا في التعليقات.
1) سورة البقرة / الآية: 168.
2) سورة البقرة / الآية: 172.
3) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 8 / الصفحة: 129 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
4) الإحتجاج (للشيخ الطبرسي) / المجلد: 1 / الصفحة: 225 / الناشر: نشر المرتضى – المشهد المقدس / الطبعة: 1.
5) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 6 / الصفحة: 270 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
6) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 6 / الصفحة: 297 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
7) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 6 / الصفحة: 297 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
8) سنن النبي (للعلامة الطباطبائي) / المجلد: 1 / الصفحة: 216 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
9) سنن النبي (للعلامة الطباطبائي) / المجلد: 1 / الصفحة: 216 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
10) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 6 / الصفحة: 376 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
11) الكافي (للشيخ محمد بن يعقوب الكليني) / المجلد: 6 / الصفحة: 377 / الناشر: دار الكتب الإسلامية – طهران / الطبعة: 4.
12) سنن النبي (للعلامة الطباطبائي) / المجلد: 1 / الصفحة: 218 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
13) سنن النبي (للعلامة الطباطبائي) / المجلد: 1 / الصفحة: 218 / الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي – قم / الطبعة: 1.
التعلیقات