برکات قدوم السيدة المعصومة إلى قم: منارة العلم وملاذ الشيعة
نساء خالدات
منذ يومإنّ دخول تلك السيّدة السماويّة إلى قم كان منعطفًا تاريخيًّا جعل هذه المدينة تنتقل من كونها قاعدةً شيعيّة إلى أن تصبح حرماً لأهل البيت عليهم السلام، ومركزاً للعلم والروحانيّة في العالم الإسلامي. واليوم، حينما يأتي الزائرون من كلّ مكان لزيارة مرقدها الطاهر، فإنّهم في الحقيقة يزورون مدينةً تدين بتاريخها وهويّتها لخطوات تلك السيّدة الكريمة.
لكنّ قم، قبل قدوم السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام، كانت أيضاً موطناً مميّزاً للشيعة، فقد جعلت عوائل الأشعريّين وغيرهم من المهاجرين الشيعة هذه الديار ملاذاً آمناً للمؤمنين. ومن هنا اختارت السيّدة الكريمة أن تقضي آخر أيّام حياتها المباركة في هذه الأرض الطاهرة.
وقد تحوّلت إقامتها القصيرة ولكن المباركة في قم إلى مصدرٍ لتحوّلات تاريخيّة عميقة؛ من ازدهار الحركة العلميّة وتربية كبار العلماء، إلى جعل قم ملجأً للقلوب العاشقة لأهل البيت.
وما أجمل أن نرى اليوم، وبعد مرور قرون، أنّ أهل قم ما زالوا يحيون ذكرى قدومها بكلّ حبّ ووفاء. ففي كلّ عام، في ذكرى دخولها المبارك، ينطلق موكبٌ مهيبٌ من «بيت النور» إلى الحرم الشريف، وتُزيَّن الطرقات بالورود وتُغمر بالأريج، وكأنّ الناس ما زالوا يستقبلون قدومها الطاهر من جديد. إنّه تقليد لا يقتصر على إحياء ذكرى تاريخيّة، بل هو تعبير عن عشقٍ أبديٍّ للسيّدة المعصومة، ورمزٌ لعلاقةٍ روحيّةٍ خالدة بين قم وهذه السيّدة السماويّة.
رحلة السيّدة المعصومة من المدينة إلى قم
في سنة 201 هـ، وبعد أن نُقل الإمام الرضا عليه السلام قسراً إلى خراسان، خرجت السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام من المدينة المنوّرة، متحمّلةً ألم فراق أخيها العزيز مدّة عام كامل، قاصدةً الالتحاق به. وكانت عليها السلام تحمل رسالة أهل البيت عليهم السلام، تنشر معارفهم وتدافع عن مظلوميّتهم، وتواصل نهج أبيها العظيم في مواجهة طواغيت العصر.
لكنّ السلطات العباسيّة اعترضت قافلتها في مدينة ساوة، فهاجمت الركب، وقتلت كثيراً من مرافقيها، بل تشير بعض المصادر ـ ومن بينها ما ذكره العلّامة المحقّق الشيخ جعفر مرتضى العاملي في كتابه حياة الإمام الرضا عليه السلام ـ إلى أنّها عليها السلام تعرّضت للتسميم. ونتيجة لذلك، ومع ما أصابها من شدّة الحزن والأسى، مرضت في ساوة وطلبت أن يُحمَلوها إلى قم، لأنّها كانت قد سمعت من أبيها أنّ قم هي مركز شيعتهم.
ولهذا دخلت السيّدة المعصومة عليها السلام مدينة قم في الثالث والعشرين من ربيع الأوّل سنة 201 هـ، حيث استقبلها جمع غفير من المحبّين والعاشقين لأهل البيت عليهم السلام. وأقامت سبعة عشر يوماً في بيت موسى بن خزرج، الذي عُرف فيما بعد بـ« بيت النور ». ثمّ فارقت الدنيا في العاشر من ربيع الثاني سنة 201 هـ، ودُفنت في «باغ بابلان»، وهو الموضع الذي أصبح اليوم مزارها الشريف ومهوى قلوب المؤمنين.
دوافع رحلة السيّدة المعصومة إلى إيران
كانت السيّدة المعصومة سلام الله عليها بعد وفاة أبيها شديدة التعلّق بأخيها الإمام الرضا عليه السلام، ترى فيه أملها الوحيد وسندها بعد أبيها. ولذلك كان فراقه مؤلماً جدّاً لها، فلم تستطع تحمّل الغياب الطويل، وبعد سنة من الهجرة القسريّة للإمام إلى خراسان قرّرت شدّ الرحال من المدينة متوجّهةً نحو إيران. أمّا السبب الدقيق لسفرها فلم يثبت بشكل قطعي، لكنّ المصادر التاريخيّة تذكر عدّة احتمالات:
أنّ الدافع الأوّل كان شوقها العميق لرؤية أخيها الإمام الرضا عليه السلام. فقد كانت عليها السلام بعد استشهاد أبيها شديدة الارتباط بأخيها، تنتفع من محضره العلميّ والروحيّ، فلمّا بَعُد عنها، عزمت على اللحاق به في خراسان، ولذلك خرجت من المدينة في سنة 201 هـ قاصدةً إيران.
ونقل بعض المؤرّخين رواية أخرى، وهي أنّ الإمام الرضا عليه السلام كتب رسالةً خاصّة إلى أخته الكريمة فاطمة المعصومة، وأرسلها مع أحد غلمانه إلى المدينة، وأمره ألّا يتأخّر في الطريق. فلمّا وصلت الرسالة إلى يدها، بادرت فوراً إلى الاستعداد للسفر. إلّا أنّ هذه الرواية لم تُذكر في المصادر القديمة المباشرة، وإنّما استنبط بعض الباحثين من إشارات تاريخيّة ما يؤيّدها.
وعلى أيّ حال، فإنّ اجتماع هذين النقلين يكشف أنّ شدّة محبّة السيّدة المعصومة لأخيها الإمام الرضا عليه السلام، إضافةً إلى الظروف السياسيّة الجديدة بعد قدومه إلى خراسان، شجّعتها على الرحيل. وقد أشار الباحث جعفريان إلى أنّ قدوم الإمام الرضا عليه السلام إلى إيران فتح الباب لهجرات واسعة من السادة والعلويّين إليها، مستفيدين من سياسة المأمون المتسامحة نسبيّاً مقارنةً بصرامة أبيه. وكانت هجرة السيّدة المعصومة عليها السلام إحدى أبرز هذه الهجرات.
كما يذكر السيّد المرعشي أنّ العلويّين عندما سمعوا بولاية الإمام الرضا عليه السلام وبالحماية النسبيّة التي وفّرها المأمون له، توافدوا إلى إيران بأعداد كبيرة، حتى بلغ عدد الإخوة وبني الأعمام الذين لحقوا بالإمام أكثر من عشرين رجلاً، ونزلوا في قم حيث أُكرموا تكريماً عظيماً. وفي الطريق، وبالتحديد في ساوة، اعترض الأعداء قافلة السيّدة المعصومة ووقع الصدام الذي أدّى إلى استشهاد عدد من مرافقيها.
قم قبل قدوم السيّدة المعصومة عليها السلام
كانت مدينة قم قبل الإسلام عبارة عن عدّة قلاع يسكنها جماعات من الزرادشتيّين واليهود. وبعد الإسلام، ومع قدوم قبيلة الأشعريّين ـ وهم من أصول يمنيّة وكانوا على مذهب التشيّع ـ بدأت هذه الأرض تأخذ طريق التطوّر والازدهار. ففي أوائل القرن الأوّل، وتحديداً سنة 23 هـ، فُتحت قم على يد جيش المسلمين، وبدأ توافد العرب المسلمين إليها. وكان أوائل من نزلها من الأشعريّين: عبد الله بن سعد، وعبد الله الأحوص، وعبد الرحمن، وإسحاق أبناء سعد بن مالك بن عامر الأشعري. ومن هنا توطّدت صلة الشيعة الخلّص بقم، وأصبحت ملجأً ومأمناً لهم.
ومنذ ذلك الحين، عُرف أهل قم بارتباطهم الخاص بأهل البيت عليهم السلام، وهذا ما جعلهم عرضةً لضغوط ومضايقات خلفاء بني أميّة والعبّاسيّين. ومع أنّ قم قبل قدوم السيّدة المعصومة لم تكن تتمتّع بعمران ظاهر، وكان أهلها الشيعة يتعرّضون للإهمال والأذى، إلّا أنّها من الناحية الإيمانيّة والدينيّة كانت بيئة صافية ومهيّأة تماماً لاستقبال أهل البيت عليهم السلام وأنصارهم المخلصين.
ولهذا السبب، أولى الأئمّة المعصومون عليهم السلام قم وأهلها عناية خاصّة، فكانوا يمتدحونها في أحاديثهم ويعبّرون عن مودّتهم لأهلها. بل وكانوا أحياناً يشرّفون بعض المؤمنين من أهل قم بهدايا وتُحف مباركة، مثل أبي جرير زكريّا بن إدريس، وزكريّا بن آدم، وعيسى بن عبد الله، وغيرهم، حيث نالوا شرف تسلّم خواتيم وثياب وأكفان من أيدي الأئمّة عليهم السلام.
ويبدو أنّ الكمّ الكبير من الأخبار والأحاديث الواردة عن قم وأهلها لم يُروَ في شأن أيّ مدينة أخرى من مدن إيران. وقد جمع المرحوم الشيخ حسين المفلس في كتابه تحفة الفاطميّين أربعين حديثاً حول فضل قم وخصوصيّتها.
بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السلام في فضل قم
قال الإمام الصادق عليه السلام:
« إن لله حرما وهو مكة وإن للرسول حرما وهو المدينة وإن لأمير المؤمنين حرما وهو الكوفة وإن لنا حرما وهو بلدة قم وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمى فاطمة ، فمن زارها وجبت له الجنة ». (1)
مدفن شفيعة الشيعة
قال الإمام الصادق عليه السلام: « تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم. » (2).
قال الإمام الصادق عليه السلام: « إن الله اختار من جميع البلاد كوفة وقم وتفليس » (3).
برکات قدوم السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام إلى قم
إنّ قدوم كريمة أهل البيت فاطمة بنت الإمام الكاظم عليها السلام إلى مدينة قم لم يكن حدثاً عابراً في التاريخ، بل كان نقطة تحوّل عظيمة في مسار هذه المدينة، حيث أضفى عليها بُعداً روحياً وعلمياً واجتماعياً ما زالت آثاره باقية إلى يومنا هذا. ومن أبرز تلك البركات ما يلي:
1. توسّع مدينة قم
امتدّت مدينة قم تدريجياً من شمالها الشرقي إلى الجنوب الغربي حيث دُفنت السيدة المعصومة عليها السلام، فصار الحرم الشريف الذي كان في أطراف المدينة، في قلبها النابض وأعمر أحيائها.
2. مكانة قم عند الملوك والناس
أصبحت قم محطّ أنظار الحكّام والعلماء والناس من مختلف الطبقات، كما جذبت قلوب محبّي أهل البيت عليهم السلام، فانتقل كثير منهم للإقامة فيها طلباً لبركة مرقد السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام.
3. صلابة المذهب في قم
نال الجانب الديني في قم قوةً خاصة، فتحوّلت إلى مركز للروحانية والفقاهة، وبرز منها أو استقرّ فيها عدد من كبار علماء الشيعة.
4. كثرة السادة في قم
بعد دفن السيدة المعصومة عليها السلام، هاجر كثير من ذرية الأئمة الأطهار عليهم السلام إلى قم، فازدادت المدينة شرفاً وارتبط اسمها بكثرة العلويين والسادة، حتى غدت أحياء كاملة تُعرف بأسمائهم مثل محلة السيدان والموسويين.
5. الاهتمام بأمر الأضرحة
منذ القرن الثالث الهجري أولى أهل قم مقابر أولاد النبي صلى الله عليه وآله عناية بالغة، فأقاموا القباب والبنايات الشامخة، وأوقفوا الأموال لخدمتها، مما جعل قم مدينة عامرة بالأضرحة المباركة
6. إنجاب العلماء الكبار
أنجبت قم ببركة السيدة المعصومة عليها السلام عشرات العلماء الكبار عبر القرون، منهم: الشيخ الصدوق، علي بن إبراهيم القمي، أحمد بن إدريس، زكريا بن آدم، وآخرون من أعلام الفقه والحديث والفلسفة، وصولاً إلى نصير الدين الطوسي وملا صدرا والمحقق النراقي والشيخ عبدالكريم الحائري وغيرهم من أعلام الفكر الإسلامي.
7. نشأة الحوزة العلمية في قم
كان من أعظم بركات السيدة المعصومة عليها السلام نشوء الحوزة العلمية في جوار مرقدها الشريف. هذه الحوزة التي أسّس لبناتها الأوائل منذ القرن الثالث الهجري، ثم ازدهرت على يد الميرزا القمي، وتألقت بجهود الشيخ عبدالكريم الحائري، وآية الله العظمى البروجردي، ومراجع العصر الحديث. واليوم أصبحت قم مركزاً علمياً عالمياً يقصده طلاب العلوم الإسلامية من شتى بقاع الأرض.
وقد بشّر الإمام الصادق عليه السلام بهذه البركة قبل قرون قائلاً:
« ثم يظهر العلم ببلدة يقال لها قم وتصير معدنا للعلم والفضل حتى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتى المخدرات في الحجال وذلك عند قرب ظهور قائمنا » (4).
الخاتمة:
وهكذا، أصبحت مدينة قم ببركة قدوم السيدة فاطمة المعصومة عليها السلام عشّ آل محمد، ومصدراً فيّاضاً لعلومهم، وملجأً للشيعة في الفتن والابتلاءات، ومهوى أفئدة المحبّين في كل زمان. فما أعظم أثرها، وما أكرم مقامها!
ولا ينبغي للمؤمن أن يغفل عن إدراك قيمة زيارتها، فهي باب من أبواب الجنة ووسيلة للتقرّب من الله بولاية أهل البيت عليهم السلام. وإنّ ما نراه اليوم من استمرار احتفال أهل قم بمقدمها المبارك، وتزيين الطرقات بالورود في ذكرى وصولها، شاهد حيّ على أنّ هذا الطريق ما زال حيّاً، وأنّ بركاتها متجدّدة على مرّ الدهور.
1. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / مؤسسةالوفاء / المجلد : 60 / الصفحة : 217.
2. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / مؤسسةالوفاء / المجلد : 60 / الصفحة : 228.
3. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / مؤسسةالوفاء / المجلد : 60 / الصفحة : 214.
4. بحار الأنوار / العلامة المجلسي / مؤسسةالوفاء / المجلد : 60 / الصفحة : 213.
التعلیقات