عجوز المئة عام؛ درب المواساة إلى كربلاء
دروس من واقعة الكربلاء
منذ 9 ساعاتفي طرقات الأربعين، حيث تختلط خطوات العابرين برائحة حب الحسين عليه السلام، تسير عجوزٌ تبلغ من العمر مئة عام من ديالى إلى كربلاء، سبعة أيامٍ كل عام، بلا ماء ولا طعام. لم يكن صومها عن الدنيا عادةً أو عجزاً، بل عهداً قطعته على نفسها: «كما عطش الحسين عليه السلام وجاعت زينب عليها السلام، فأنا أيضاً أسير جائعة عطشى». تلك الخطوات الضعيفة كانت أقوى من كلّ تعب، لأنها تحمل قلباً مواسياً للسبط الشهيد وأخته المظلومة.
خادمة أهل البيت
كانت هناك عجوزٌ خادمة في مسيرة الأربعين في العراق، من أهالي ديالى، تسير إلى كربلاء مشياً منذ ثمانية عشر عاماً. كانت تمتنع في هذا الطريق عن شرب الماء وتناول الطعام، وتعتقد أنّه بما أنّ الإمام الحسين عليه السلام لم يشرب الماء، فهي أيضاً لا ينبغي لها أن تشرب الماء في هذا الطريق.
هذه العجوز، واسمها ( أم مزهر )، كانت تقطع مسافة المشي من ديالى إلى كربلاء في سبعة أيام كل عام. وفي هذا الطريق كانت ترفض حتى ما يُعرض عليها من ماء وطعام، وتقول: ( الحسين عليه السلام لم يشرب الماء، وقطع رأسه الشريف عن جسده، يعرضون عليّ الماء فلا أشرب، ويقولون كُلي فلا آكل، كيف أشرب الماء وأتناول الطعام والحال أنّ السيدة زينب عليها السلام كانت جائعة وعطشى في هذا الطريق؟ ).
العجوز وكتلة الخيط
تُذكّرنا هذه العجوز بتلك الحكاية حين أُخذ النبي يوسف الصدّيق عليه السلام إلى مصر ليُعرض للبيع، فقد حضّر الناس أموالاً كثيرة لشرائه، وفجأة جاءت عجوز تحمل كتلة من الخيط لتشتري بها يوسف عليه السلام.
فقال لها أحدهم: يا حمقاء! مع كل هذا المال الذي أعدّه الأشراف لشرائه، ما الذي يدفعكِ أن تطمعي في شراء يوسف بهذه الكتلة من الخيط؟
فقالت العجوز: أعلم أنهم لن يبيعوا يوسف لي بهذا المبلغ القليل، لكن مقصودي أنني حين يُحصون عدد المشترين ليوسف أُحسب أنا أيضاً منهم.
المواساة في عاشوراء
لقد خطت هذه العجوز المضحية على طريق نساء أصحاب الإمام الحسين عليه السلام.
فعندما قال الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه من بني أسد: « إنّ أهلي سيُؤسرون، فخذوا نساءكم إلى قبيلتكم »، أراد أحدهم أن يأخذ زوجته، لكنّها رفضت وقالت لزوجها: « لم تنصفنا! أتبقى بنات رسول الله أسيرات وأبقى أنا في راحة وأمان؟ إن كنتم تواسون الرجال، فنحن أيضاً نواسي النساء». فجاء الرجل باكياً إلى الإمام عليه السلام وأخبره أنّ زوجته تريد أن تواسي كذلك، فدعا لها الإمام عليه السلام.
المواساة بالنفس
أهم وأصعب أنواع المواساة ومرافقة المبتلين، هي المواساة بالنفس. ففي ليلة عاشوراء، وبعد أن تأكّد سيد الشهداء عليه السلام من عزم من بقي من أصحابه على نصرته، قال: « مَنْ واسانا بنفسه کان معنا غداً فی الجَنان نَجِیًّا من غضبِ الرحمان »، ووصف الأرواح التي كان يحتاجها للدفاع عن عقيدته بأنّها « مواسية بالنفس ».
وللمواساة حتى بذل النفس في كربلاء مشاهد عظيمة، نذكر بعضاً منها:
مواساة الحرّ بن يزيد
عندما تاب الحُرّ بن يزيد الرياحي، جاء إلى الإمام عليه السلام ليبذل نفسه فداءً له قائلاً: « مواسياً لك بنفسي ». وقد أثبت دعواه بالعمل، وحين جاء الإمام الحسين عليه السلام إلى جانبه وهو يحتضر، وضع رأسه في حجره، وأثنى على حريته، وأكّد مواساته بأبيات قال فيها:
وَنِعْمَ الحُرُّ إذ نادى حُسَيْنٌ
وجادَ بنفسِه عندَ الصباحِ
مواساة أبي الفضل العباس عليه السلام
وأعلى مراتب هذه المواساة أظهرها أبو الفضل العباس عليه السلام، إذ دخل الفرات وهو عطشان، لكنّه لم يشرب الماء، وخرج حاملاً القِربة ليسقي أطفال الإمام عليه السلام وعطاشى الحرم، حتى استُشهد في هذا الطريق. لقد كان فداءً لأخيه حتى أنّ هذه الصفة الجليلة والشهامة الرفيعة خُلّدت في زيارته:
« فلنعم الأخ المواسي »، « السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ وَ الصِّدِّيقُ الْمُوَاسِي أَشْهَدُ أَنَّكَ آمَنْتَ بِاللَّهِ وَ نَصَرْتَ ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ وَ دَعَوْتَ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ وَ وَاسَيْتَ بِنَفْسِكَ ».
وهذه العبارات شهادة على أنّه في سبيل الله وبدافع المواساة بالنفس قد دافع عن إمامه المظلوم في تلك الصحراء الغريبة.
آثار المواساة
للمواساة آثار مهمّة جداً، نشير إلى بعضها:
1. إزالة الهمّ في الدنيا والآخرة
بشّر سيّد الشهداء عليه السلام المهتمّين بآلام الناس ومعاناتهم بقوله: «مَنْ نَفَّسَ كُرْبَةَ مُؤْمِنٍ، فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرَبَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» (٢).
2. القرب من الله
كما عدّ الإمام الصادق عليه السلام المواساة والتعاطف الحقيقي مع الإخوة في الدين وسيلة للتقرّب إلى الله، فقال: « تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمُوَاسَاةِ إِخْوَانِكُمْ ».
3. الجنّة مع المغفرة والرضوان الإلهي
في تفسيره لقول الله تعالى في الآية 83 من سورة البقرة: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ…»، اعتبر الإمام الحسن العسكري عليه السلام الإحسان إلى المساكين هو المواساة معهم، فقال عليه السلام: « وَأَمَّا قَوْلُهُ عَزَّ وَ جَلَّ: وَ الْمَسٰاكِينِ فَهُوَ مَنْ سَكَّنَ الضُّرُّ وَ الْفَقْرُ حَرَكَتَهُ؛ أَلاَ فَمَنْ وَاسَاهُمْ بِحَوَاشِي مَالِهِ، وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ جِنَانَهُ، وَأَنَالَهُ غُفْرَانَهُ وَ رِضْوَانَهُ » (٣).
4. زيادة الرزق
قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: « مُوَاسَاةُ الْأَخِ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ تَزِيدُ فِي الرِّزْقِ » (٤).
5. مرافقة سيّد الشهداء عليه السلام في الجنّة
إذا تجاوزت المواساة حدود المال، وكان الإنسان يحمل همّ الدين والدنيا للناس كما فعل أصحاب الإمام الحسين عليه السلام وبذلوا أنفسهم في سبيل الدفاع عن الإمام عليه السلام. ففي إحدى ليالي المحرّم، قال الإمام الحسين عليه السلام في جمع أصحابه: « مَن واسانا بِنَفسِهِ كانَ مَعَنا غَداً فِي الجَنانِ نَجِيّاً مِن غَضَبِ الرَّحْمٰنِ »؛ أي من واسانا بنفسه كان غداً في الجنّة معنا ونجا من غضب الله تعالى. وللمواساة آثار أخرى أيضاً، مثل استجابة الدعاء.
النتيجة
ليست المواساة كلماتٍ تُقال أو دموعاً تُذرف، بل أن تحمل همّ الحسين وزينب عليهما السلام في قلبك، وتعيش آلامهما في جسدك. هذه العجوز المئة عام علّمتنا أن العمر لا يحدّ العزيمة، وأن المواساة الحقيقية هي أن تشارك الإمام في غربته، وأن تمشي في درب زينب بحبّ ووفاء حتى آخر الأنفاس. فمن أراد أن يكون مع الحسين غداً في الجنان، فليكن اليوم مثل هذه العجوز… يواسي بقلبه وخطاه، ولو كان الثمن العطش والجوع والتعب.
1. موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام لمعهد تحقيقات باقر العلوم عليه السلام / الصفحة : ٣٩٩.
2. سفینة البحار و مدینة الحکم و الآثار للشيخ عباس القمي / المجلد : ٢ / الصفحة : ٦٣٨.
3. البرهان في تفسير القرآن للسيد هاشم البحراني / المجلد ١ / الصفحة : ٢٦٥.
4. بحار الأنوار للعلامة المجلسي / دارالاحیاء التراث / المجلد : ٧١ / الصفحة : ٣٩٥.
التعلیقات