شبهة أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان مطلاقًا: قراءة علمية نقدية
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 3 ساعاتشبهة أنّ الإمام الحسن عليه السلام كان مطلاقًا: قراءة علمية نقدية
تمهيد
لم يَسلم أئمة أهل البيت عليهم السلام من ألسنة الجهّال، ولا من أقلام الحاقدين الذين امتلأت قلوبهم حسدًا وعداءً لأهل النبوة ومعدن الرسالة. فكما طُعن في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وأهل بيته وأصحابه ، لم ينجُ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام من افتراءات حاولت تشويه صورته الناصعة. ومن تلك الشبهات ما يُنسب إليه من أنه "مطلاق ذوّاق"، أي كثير الزواج والطلاق، وهي شبهة تكررت على ألسنة بعض الطاعنين الذين نسبوها إلى روايات موجودة في كتب الشيعة الإمامية.
أولًا: بيان الشبهة
استند مثيرو الشبهة إلى رواية نُسبت إلى الشيخ الكليني في الكافي، بسند ينتهي إلى عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام، « إِنَّ عَلِيّاً قَالَ وَ هُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: لَا تُزَوِّجُوا الْحَسَنَ فَإِنَّهُ رَجُلٌ مِطْلَاقٌ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَقَالَ: بَلَى وَ اللَّهِ لَنُزَوِّجَنَّهُ وَ هُوَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَ ابْنُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَ إِنْ شَاءَ طَلَّقَ » (1).
وقد جعل بعضهم هذه الرواية دليلاً على أن الشيعة الإمامية يقرّون بأن إمامهم الثاني كان كثير الطلاق، بل جعله بعضهم منقصة ومَطعنًا في عصمته وسلوكه، مع أن الطعن في الإمام هو في حقيقته طعن برسول الله صلى الله عليه وآله، لأن الإمام الحسن عليه السلام هو فلذة كبده وسيد شباب أهل الجنة.
ثانيًا: دراسة المواقف من هذه الشبهة
المؤيدون لكثرة الزواج والطلاق
ذهب بعض الباحثين إلى أن الإمام الحسن عليه السلام قد تزوج بكثرة، مستندين إلى ما ورد في بعض الروايات، ومُبررين ذلك بعدة أمور:
استحباب الزواج في الشريعة الإسلامية
لا يوجد في أصل الشريعة الإسلامية ما يمنع كثرة الزواج ما دام في إطار الشرع، بل وردت أحاديث تحث على الزواج وتحث على التكاثر. وقد جاء في الحديث: « تَناكَحُوا تَكثُرُوا فإنّي اُباهِي بِكُمُ الاُمَمَ يَومَ القِيامَةِ » (2).
المصاهرة كأداة سياسية
قد يكون الإمام عليه السلام اتخذ الزواج وسيلة لتقوية الموقع الاجتماعي والسياسي لأهل البيت عليهم السلام، من خلال مصاهرة القبائل المختلفة، ومنهم بعض القبائل التي كانت تدين بالولاء للأمويين، فيكون زواجه وسيلة لاحتواء الخصوم، أو لكسب النفوذ في مجتمعات مختلفة.
إقبال الناس على تزويج بناتهم منه
كان الناس يتشرفون بمصاهرة الإمام الحسن عليه السلام، فهو حفيد النبي صلى الله عليه وآله، ومن الطبيعي أن يُعرض عليه الزواج بكثرة، وقد لا يرفض تلك العروض ما دام لا يتعارض مع التقوى والشرع.
الرافضون للشبهة والنافون لكثرة الزواج والطلاق
في المقابل، رفض آخرون هذه الشبهة، بل نفوا أصلها، واستدلوا بأدلة عقلية ونقلية، منها:
كراهة الطلاق في الشريعة الإسلامية
الطلاق مكروه في الشريعة، وقد ورد عن ابي عبد الله عليه السلام : « مَا مِنْ شَيْءٍ مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ أَبْغَضَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّلَاقِ » (3).
فهل يُعقل أن يُكثر الإمام المعصوم من أمر مكروه لا يُلجأ إليه إلا عند الضرورة ؟
تنافي الشبهة مع سيرة الإمام
الإمام المعصوم عليه السلام هو القدوة في الأخلاق والرفق، ومن صفاته الرحمة والحنان. فهل يُعقل أن يسبب الأذى النفسي المتكرر للنساء بطلاقهن، خاصة وأن الطلاق المتكرر يترك أثرًا نفسيًا واجتماعيًا كبيرًا على المرأة في المجتمع ؟
مسؤوليات الإمام الكبيرة
كان الإمام الحسن عليه السلام إمامًا للأمة، ووريثًا للنبوة، ومشغولًا بهموم الأمة، ومتصديًا لقيادتها في أحلك الظروف، خصوصًا في ظل دسائس الأمويين والفتن السياسية. فمتى تفرغ – وفق هذه الدعوى – للزواج من عشرات أو مئات النساء كما يُقال؟
ضعف الروايات من حيث السند والمتن
أغلب الروايات التي تتحدث عن هذه الكثرة في الزواج والطلاق ضعيفة السند، وبعضها مرسل أو فيه رواة مطعون في عدالتهم، ما يجعل الاحتجاج بها باطلًا. بل إن نفس الرواية التي نُسبت للكليني يمكن مناقشة سندها، فضلاً عن مضمونها الذي يتنافى مع صفات الإمام المصعوم عليه السلام
ثالثًا: نظرة تحليلية متوازنة
يتبين من خلال ما تقدم أن هذه الشبهة ليست مسألة تاريخية بسيطة بل هي قضية عقائدية لها جذور طاعنة في مقام الإمامة والعصمة. وكما هو واضح، فإن الروايات المستخدمة في ترويج هذه الشبهة لا يمكن قبولها دون تحقيق علمي دقيق في أسانيدها ومتونها. ومجرد ذكر رواية في كتاب لا يعني تبني المؤلف لها، فإن الكليني وغيره من المحدثين كانوا ينقلون الروايات مع الثقة بأن العلماء سيُعرضونها على قواعد الجرح والتعديل وموازين الدراية.
بل إن الروايات الصحيحة والثابتة التي تُبيّن ورع الإمام وعلمه وتقواه تفوق بأضعاف هذه الروايات الشاذة التي لا تصمد أمام التحقيق العلمي.
رابعًا: مناقشة علمية إضافية تُسقط دعوى كثرة أزواج الإمام الحسن عليه السلام
ومهما يكن من شيء، فإنّه لا يوجد دليل علمي موثق يثبت كثرة أزواج الإمام الحسن عليه السلام غير الروايات التي أُشير إليها، وهي لا تصلح للاعتماد بسبب ما يحيط بها من شبهات وطعون سندية ومضمونية. بل هناك عدة قرائن تاريخية وعقلية تؤكد افتعال تلك الأكاذيب، منها:
1. عدم توافق عدد الذرية مع عدد الأزواج المزعوم
لو صحّت تلك الروايات عن كثرة زواجه وطلاقه، لكان عدد أولاد الإمام عليه السلام كبيرًا جدًا، في حين أن النسّابين والمؤرخين لم يذكروا له سوى اثنين وعشرين ولدًا بين ذكر وأنثى، وهو عدد معتدل لا يتناسب مع من يُدعى أنه تزوج العشرات أو المئات من النساء.
وهذا الاختلاف الكبير بين عدد الزوجات المزعوم وعدد الذرية الفعلي ينقض أصل الرواية.
2. صمت الخصوم عنه في مناظراته
لقد ورد في كتب التاريخ أن الإمام الحسن عليه السلام خاض مناظرات علنية مع خصومه من الأمويين وغيرهم، وخاصة الذين كانوا في دمشق، وكانوا في تلك المواقف يتربصون به ويحاولون النيل من شخصه الكريم، ولكنهم لم يذكروا شيئًا عن كثرة زواجه أو طلاقه.
ولو كانت تلك الشبهة حقيقية، لكانت أفضل وسيلة للطعن فيه علنًا، ولكن صمتهم يُعدّ دليلاً على عدم واقعيتها.
3. قلة عدد الأصهار
ذكر أبو جعفر محمد بن حبيب (ت: 245هـ) في كتابه المحبّر ثلاثة أصهار فقط للإمام الحسن عليه السلام:
الإمام زين العابدين عليه السلام (ابنه من أم عبد الله)
عبد الله بن الزبير (كان زوجًا لأم الحسن)
عمرو بن المنذر (كان زوجًا لأم سلمة)
ولو كان الإمام كثير الزواج لذكر له المؤلف عددًا كبيرًا من الأصهار، خصوصًا أن المؤلف معروف بعنايته بتوثيق نوادر الأزواج والأنساب، ولم يفعل ذلك.
4. استحالة أن يُنهى عنه علنًا من أمير المؤمنين عليه السلام
من الروايات الموضوعة: أن الإمام علي عليه السلام كان يصعد المنبر ويقول: « لا تزوجوا الحسن، فإنه مطلاق »
وهذا القول غير منطقي على عدة مستويات:
هل عصى الإمام الحسن أمر والده؟ هذا مستبعد تمامًا لأن الإمام من أهل العصمة، ولا يمكن أن يُخالف وصية أبيه، وهو الإمام المعصوم كذلك.
هل كان أمير المؤمنين عليه السلام سيعلن كراهته لفعله على المنبر أمام الناس؟ وهذا أيضًا بعيد، لأن الإمام لا يفضح أهل بيته بهذه الطريقة، بل يُربيهم بالحكمة والموعظة.
هل كان الفعل غير سائغ شرعًا؟ فإن لم يكن، فكيف يفعله الحسن عليه السلام؟ وإن كان سائغًا، فلماذا يُنهى عنه؟
كل ذلك يُؤكد أن الرواية موضوعة من خصوم الإمام لتشويه صورته وإسقاط مقامه، وللتأثير في مكانته كإمام من أهل البيت عليهم السلام.
5. كذب قصة "النسوة الحافيات" في جنازته
يروي بعضهم أن عند تشييع الإمام الحسن عليه السلام خرجت جمهرة من النساء حافيات حاسرات خلف جنازته، وهن يهتفن بأنهن زوجاته.
وهذا أمر بعيد كل البعد عن أخلاق نساء أهل البيت، إذ أن خروجهن بهذه الهيئة أمام الجماهير يُخالف السلوك الإسلامي والتقاليد الهاشمية القائمة على الحياء والتستّر. وهذا يُظهر أن القصة موضوعة لتُعزز الشبهة لا أكثر.
فرية المنصور :
ورجّح هذا الرأي المحقق النبيه والمدقق الواعي، سماحة الشيخ باقر شريف القرشي قدّس سره، في دراسته وتحقيقه المعمّق في كتابه حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل.
وأكبر الظن أن أبا جعفر المنصور هو أول من افتعل ذلك ، وعنه أخذ المؤرخون ، وسبب ذلك هو ما قام به الحسنيون من الثورات التي كادت أن تطيح بسلطانه ، وعلى أثرها القى القبض على عبد الله بن الحسن وخطب على الخراسانيين في الهاشمية خطابا شحنه بالسبّ والشتم لأمير المؤمنين ولأولاده ، وافتعل فيه على الحسن ذلك ، وهذا نص خطابه :
« إن ولد آل أبي طالب تركناهم والذي لا إله إلا هو والخلافة ، فلم نعرض لهم لا بقليل ولا بكثير ، فقام فيها علي بن أبي طالب ، فما أفلح وحكم الحاكمين ، فاختلفت عليه الأمة ، وافترقت الكلمة ، ثم وثب عليه شيعته وأنصاره وثقاته ، فقتلوه ، ثم قام بعده الحسن بن علي فو الله ما كان برجل عرضت عليه الأموال فقبلها ، ودسّ إليه معاوية أني أجعلك ولي عهدي ، فخلعه ، وانسلخ له مما كان فيه وسلمه إليه ، وأقبل على النساء يتزوج اليوم واحدة ، ويطلق غدا أخرى ، فلم يزل كذلك حتى مات على فراشه » (4).
خاتمة
يتّضح من خلال هذا البحث العلمي النقدي أنّ شبهة "كثرة زواج وطلاق الإمام الحسن عليه السلام" لا تمتّ إلى الواقع بصلة، بل هي دعوى مفبركة لا تقوم على أساس صحيح من النقل أو العقل. وقد ثبت بما لا يقبل الشك أن الأدلّة التي استند إليها مثيرو هذه الشبهة إما ضعيفة السند، أو مخالفة لمقام العصمة، أو متناقضة مع السيرة المعروفة للإمام الحسن عليه السلام في الحكمة، والورع، والعفة، وتحمل هموم الأمة.
إنّ الهدف من هذه التهمة كان واضحًا: تشويه صورة إمام معصوم من أهل البيت عليهم السلام، والإساءة إلى رموز الرسالة المحمدية، والحطّ من مكانتهم التي جعلها الله لهم. وقد لعبت الدوافع السياسية دورًا محوريًا في اختلاق هذه الفرية، خصوصًا في عهد العباسيين، كما أشار إلى ذلك المحقق الشيخ باقر شريف القرشي، حيث كانت السلطة ترى في الحسن المجتبى عليه السلام وأبنائه تهديدًا مباشرًا لشرعيتهم.
لقد أثبت هذا البحث أن مثل هذه الشبهات لا تصمد أمام النقد العلمي الرصين، ولا يمكن تمريرها على من يعرف قدر أهل البيت عليهم السلام ويدرك طبيعة سيرهم وسلوكهم، الذين هم ورثة النبوة، ومصابيح الهدى، ومراجع الأمة في الدين والأخلاق. ومن هنا، فإن مسؤولية التصدي لمثل هذه الدعاوى تقع على عاتق العلماء والباحثين، ليُزيلوا الغبار عن الحقائق، ويُفشلوا محاولات التشويه، ويُحيوا تراث الأئمة عليهم السلام صافياً نقيًّا كما أراده الله ورسوله.
وبهذا نخلص إلى أنّ ما نُسب إلى الإمام الحسن عليه السلام من كثرة الزواج والطلاق، ليس إلا وهمًا شُحن بالحقد والجهل والتضليل، ولا يصح أن يكون مادة للطعن في إمامته أو شخصه الشريف. بل الإمام الحسن عليه السلام يبقى مثالًا أعلى في العفة، والحكمة، والقيادة الربانية، كما يليق بسيدٍ من سادة أهل الجنة، وسبطٍ من سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
1. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 6 / الصفحة : 56 / - ط الاسلامية.
2. عوالي اللئالي / ابن أبي جمهور / المجلّد : 2 / الصفحة : 261.
3. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 6 / الصفحة : 54 / - ط الاسلامية.
4. حياة الإمام الحسن بن علي عليهما السلام دراسة وتحليل / باقر شريف القرشي / المجلّد : 2 / الصفحة : 452.
التعلیقات