آداب السفر في الإسلام
الشيخ مهدي المجاهد
منذ 4 أيامالحمد لله الذي جعل في السفر عبرةً، وفي الترحال تأديبًا للنفس وتزكيةً للروح، والصلاة والسلام على النبي المصطفى محمد وآله الطاهرين الذين لم يتركوا لأحدٍ سبيلاً إلى الخير إلا دلّوه عليه.
إنّ السفر جزء من سنن الحياة، يتكرر في حياة الإنسان لأغراضٍ متعددة: من عبادةٍ كالحج والزيارة، إلى عملٍ، أو طلب علمٍ، أو ترويح عن النفس. وقد أولى الإسلام عنايةً كبيرة بهذه السنّة الإنسانية، فلم يتركها عفواً دون توجيه، بل شرّع لها آدابًا وسنناً تحفظ للمؤمن دينه وأخلاقه وسلامته، وتُضفي على رحلته طابعًا روحيًا وإيمانيًا خاصًّا.
وفي هذه المقالة نسلّط الضوء على مجموعةٍ من آداب السفر المستقاة من أحاديث المعصومين عليهم السلام، لنبيّن ما ينبغي للمؤمن أن يتحلى به في سفره، من صدقةٍ وتسميةٍ وأخلاقٍ وصحبةٍ حسنة، وغير ذلك مما وردت به الروايات الشريفة، لتكون زادًا للمسافر في دنياه وآخرته.
آثار الصدقة في السفر
من الأمور التي يجدر بالمسافر أن يضعها نصب عينيه قبل الشروع في طريقه، المبادرة إلى الصدقة، فإن لها أثرًا بالغًا في جلب الحفظ والسلامة، ودفع البلاء والشرور المحتملة. فالصدقة تفتح أبواب التوفيق، وتكون بمثابة درعٍ واقٍ يحيط بالمسافر في حله وترحاله، وتُعد من السنن التي يغفل عنها الكثير، رغم ما لها من بركات محسوسة في الطريق والرجوع بسلام.
وروي أن رجلاً من أصحاب الباقر عليه السلام أراد السفر فأتاه ليودعه فقال له : « كَانَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ عليه السلام إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى بَعْضِ أَمْوَالِهِ اشْتَرَى السَّلَامَةَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ بِمَا تَيَسَّرَ وَ يَكُونُ ذَلِكَ إِذَا وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الرِّكَابِ وَ إِذَا سَلَّمَهُ اللَّهُ وَ انْصَرَفَ حَمِدَ اللَّهَ وَ شَكَرَهُ أَيْضاً بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ » (1)، فودعه الرجل ومضى ولم يعمل بما وصاه الباقر عليه السلام فهلك في الطريق فأتى الخبر الباقر عليه السلام فقال : « قد نُصح الرجل لو كان قَبِلَ » (2).
وجاء في الخبر عن حمّاد بن عثمان قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: « أيكره السفر في شيء من الأَيام المكروهة مثل الأَربعاء وغيره ؟ فقال : افتتح سفرك بالصدقة ، واخرج إذا بدا لك . واقرأ آية الكرسي واحتجم إذا بدا لك » (3).
وورد في الخبر عن ابن أبي عمير، أنَّه قال: كنت أنظر في النجوم وأعرفها، وأعرف الطالع فيدخلني من ذلك شيء فشكوت ذلك إلى أبي الحسن موسى بن جعفر عليه السلام فقال: « إِذَا وَقَعَ فِي نَفْسِكَ شَيْءٌ، فَتَصَدَّقْ عَلَى أَوَّلِ مِسْكِينٍ، ثُمَّ امْضِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَدْفَعُ عَنْكَ » (4).
دعوات السفر وآدابه كثيرة ، ونحن هنا نقتصر بذكر عدّة آداب :
الأول : ينبغي للمر أن لا يترك التسمية عند الركوب.
الثاني : أن يحفظ نفقته في موضع مصُون. فقد روي أنَّ من فقه المسافر حفظُ نفقته.
الثالث : أن يساعد أصحابه في السفر ولايحجم عن السعي في حوائجهم كي ينفس الله عنه ثلاثاً وسبعين كربة ويجيره في الدنيا من الهم والغم وينفس كربه العظيم يوم القيامة.
وروي أنَّ الإمام زين العابدين عليه السلام كان لا يسافر الاّ مع رفقة لا يعرفونه ليخدمهم في الطريق فإنهم لو عرفوه منعوه عن ذلك ، ومن الاخلاق الكريمة للنبي صلى الله عليه وآله أنه كان مع صحابته في بعض الأسفار فأرادوا ذبح شاة يقتاتون بها فقال أحدهم : عليَّ ذبحها ، وقال آخر : عليَّ سلخ جلدها ، وقال الآخِر : عليَّ طبخها فقال صلى الله عليه وآله : عليَّ الإحتطاب ، فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وآله : نحن نعمل ذلك فلا تتكلّفه أنت فأجاب : أنا اعلم أنّكم تعملونه ولكن لايسرني أن أمتاز عنكم فإن الله يكره أن يرى عبده قد فضّل نفسه على أصحابه.
وأعلم أنّ أثقل الخلق على الأصحاب في السفر من تكاسل في الاعمال وهو في سلامة من أعضائه وجوارحه فهو لايؤدِّي شَيْئاً من وظائفه مرتقباً رفقته يقضون له حوائجه.
الرابع : أن يصاحب الرجل من يماثله في الأنفاق.
الخامس : أن لا يشرب من ماء أي منزل يرده إِلاّ بعد ان يمزجه بماء المنزل الذي سبقه.
ومن اللازم أن يتزود المسافر من تربة بلده وطينته التي ربّي عليها ، وكلما ورد منزلاً طرح في الأناء الذي يشرب منه الماء شَيْئاً من الطين الذي تزوده من بلده ويشوب الماء والطين في الآنية بالتحريك ويؤخر شربه حتى يصفو.
السادس : أن يحسن أخلاقه ويتزين بالحلم .
السابع : أن يتزود لسفره ، ومن شرف المرء أن يطيِّب زاده لا سيما في طريق مكة ، نعم لايستحسن في سفر زيارة الحسين عليه السلام أن يتخذ زاداً لذيذاً كاللحم المشوي والحلويات وغير ذلك.
الثامن : من أهم الأشياء في السفر المحافظة على الفرائض بشرائطها وحدودها ، وأداؤها في بد أوقاتها.
ولا تدع بعد الصلاة المقصورة أن تقول ثلاثين مرّة : سُبْحانَ الله وَالحَمْدُ للهِ وَلا إلهَ إِلاّ الله وَالله أَكْبَرُ ، فهو من السنن المؤكدة. (5)
اعلام السفر والوصية
من الآداب الرفيعة التي حثّ عليها أهل البيت عليهم السلام في حال السفر، أن لا يكون المؤمن في عزلة عن إخوانه، بل يُستحب له أن يُوصي قبل سفره، وأن يُعلمهم بعزمه على الرحيل، خصوصًا إذا كان السفر إلى مواطن البركة كزيارة المراقد الطاهرة أو أداء مناسك الحج. فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: « مَنْ رَكِبَ رَاحِلَةً فَلْيُوصِ » (6)، وهي وصيّة تحمل في طياتها بُعدًا اجتماعيًا وروحيًا، لما في إعلام الإخوان من إشاعة للمحبة، وإعداد لمساعدته إن احتاج، والدعاء له بالحفظ والقبول. كما ورد عنه عليه السلام نقلًا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: « حَقٌّ عَلَى الْمُسْلِمِ إِذَا أَرَادَ سَفَراً أَنْ يُعْلِمَ إِخْوَانَهُ ، وَ حَقٌّ عَلَى إِخْوَانِهِ إِذَا قَدِمَ أَنْ يَأْتُوهُ » (7)، فيتجلّى من ذلك أن السفر ليس انقطاعًا عن الجماعة، بل هو فرصة لتعميق الروابط الإيمانية، وبناء جسور التواصل حتى في البُعد.
قصة الإمام الهادي عليه السلام وخادمه في استأذانه للسفر:
عن أبي محمد القاسم بن العلاء المدائني قال : حدثني خادم لعلي بن محمد عليهما السلام قال : استأذنته في الزيارة إلى طوس فقال لي : « يكون معك خاتم فصه عقيق أصفر ، عليه : ما شاء الله ، لا قوة إلا بالله ، أستغفرالله ، وعلى الجانب الآخر : محمد وعلي ، فإنه أمان من القطع ، وأتم للسلامة ، وأصون لدينك » قال : فخرجت وأخذت خاتما على الصفة التي أمرني بها ، ثم رجعت إليه لوداعه ، فودعته وانصرفت ، فلما بعدت عنه أمر بردي ، فرجعت إليه فقال : « ياصافي » قلت : لبيك يا سيدي ، قال : « ليكن معك خاتم آخر فيروزج ، فإنه يلقاك في طريقك أسد بين طوس ونيشابور ، فيمنع القافلة من المسير ، فتقدم إليه وأره الخاتم ، وقل له : مولاي يقول لك : تنح عن الطريق ، ثم قال : ليكن نقشه : الله الملك ، وعلى الجانب ألآخر : الملك لله الواحد القهار ، فإنه خاتم أمير المؤمنين علي عليه السلام كان عليه : الله الملك ، فلما ولي الخلافة نقش على خاتمه : الملك لله الواحد القهار ، وكان فصه فيروزج ، وهوأمان من السباع ـ خاصة ـ وظفر في الحروب ».
قال الخادم : فخرجت في سفري ذلك ، فلقيني ـ والله ـ السبع ، ففعلت ما أمرت ، ورجعت حدثته ، فقال عليه السلام لي : « بقيت عليك خصلة لم تحدثني بها ، إن شئت حدثتك بها » فقلت : يا سيدي ، علي نسيتها ، فقال : « نعم بت ليلة بطوس عند القبر ، فصار إلى القبر قوم من الجن لزيارته ، فنظروا إلى الفص في يدك وقرؤا نقشه فأخذوه من يدك وصاروا به إلى عليل لهم ، وغسلوا الخاتم بالماء وسقوه ذلك الماء فبرأ ، وردوا الخاتم إليك ، وكان في يدك اليمنى فصيروه في يدك اليسرى ، فكثر (تعجبك من ذلك) ، ولم تعرف السبب فيه ، ووجدت عند رأسك حجرا ياقوتا فأخذته ، وهو معك فاحمله إلى السوق ، فإنك ستبيعه بثمانين ديناراً ، وهي هدية القوم إليك » فحملته إلى السوق فبعته بثمانين ديناراً ، كما قال سيدي عليه السلام (8) .
الخاتمة:
وهكذا يتّضح أن السفر في تعاليم الإسلام لا يُنظر إليه كتنقّل عابر، بل كرحلة إيمانية ذات أبعاد تربوية وروحية واجتماعية. فمن بداية الرحلة بالوصيّة، إلى التزود بالصدقة، إلى حمل الأدعية والخواتم المباركة، إلى التزام الأخلاق العالية والتواضع في الرفقة، كل ذلك إنما هو انعكاس لعظمة المنهج الذي رسمه أهل البيت عليهم السلام لأتباعهم في كل خطوة من حياتهم، حتى في السفر.
فمن أراد السلامة والتوفيق في طريقه، فليتّبع هذه السنن النورانية، ولْيجعل من سفره طاعة وقربة، لا مجرد عبور مكاني. نسأل الله أن يجعل أسفارنا جميعًا محفوفة برعايته، ومكللة ببركات محمد وآل محمد، وأن لا يجعلنا من الغافلين عن وصاياهم، فهم طريقنا إلى الله، وأماننا في الدنيا والآخرة.
1. المحاسن / ابو جعفر البرقي / المجلّد : 2 / الصفحة : 348.
2. مفاتيح الجنان / الشيخ عباس القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 391.
3. وسائل الشيعة / الشيخ حرّ العاملي / المجلّد : 11 / الصفحة : 375 / ط - آل البیت.
4. الأمان من أخطار الأسفار والأزمان نویسنده / السيد بن طاووس / المجلّد : 1 / الصفحة : 38.
5. مفاتيح الجنان / الشيخ عباس القمي / المجلّد : 1 / الصفحة : 394 ـ 395.
6. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 4 / الصفحة : 542 / ط الاسلامية.
7. الكافي / الشيخ الكليني / المجلّد : 2 / الصفحة : 174 / ط الاسلامية.
8. الأمان من أخطار الأسفار والأزمان / السيد بن طاووس / المجلّد : 1 / الصفحة : 48.
التعلیقات