القابلة في الحضارة الإسلامية: حين كانت النساءُ يُسلّمن الحياة بأيدٍ من نور
ريحانة
منذ أسبوعفي عالمٍ لم تكن فيه الآلاتُ تصدر صوتها في غرف الولادة، ولا المستشفيات تمتدّ أذرعها إلى كل بيتٍ، كانت هناك نساءٌ عارفات، حكيمات، خبيرات، يُسمَّين بالقابلات. هؤلاء النسوة كنّ أكثر من مجرّد مساعدات في الولادة، بل كنّ حارساتٍ لأسرار الحياة والموت، وصاحبات مقامٍ عالٍ في ذاكرة المجتمعات الإسلامية.
من القرآن تبدأ الرحلة
في سوره "المؤمنون"، يخبرنا الله عن خلق الإنسان من نطفة، ثم علقة، فمضغة، فعظام، ثم لحم، حتى يُبعث خلقًا آخر. لم يكن هذا الوصف مجرد بيانٍ بيولوجي، بل وحيٌ أوحى إلى أطباء المسلمين بفهم مراحل التكوين، والاعتناء بالحمل والولادة كأمرٍ روحي قبل أن يكون طبيًا. لقد جعل الإسلام لحظة الميلاد لحظة مقدسة، ورفع مكانة من يرافقها.
القابلة... صانعة الحياة وصاحبة الحكمة
لم تكن القابلة في الحضارة الإسلامية امرأة عامية فحسب، بل كثيرٌ منهن تعلّمن على يد العلماء والأطباء، كالرازي وابن سينا والزهراوي.
في كتاب القانون لابن سينا والحاوي للرازي، توجد فصول مخصّصة لطب النساء والولادة، وتُذكر القابلات كشريكاتٍ أساسيّات في التنفيذ.
ابن خلدون يُطلق على القابلة وصف "صانعة"، ويقول إنها "التي تُخرج الجنين من بطن أمه برفق، وتعتني بحاله بعد الولادة."
شروط اختيار القابلة: علمٌ وطهارةٌ وأمانة
كانت القابلة تُختار بعناية، ولا تُقبل إلا إذا كانت: ذات سمعةٍ طيبة وأخلاقٍ عالية
مؤتمنة على أسرار البيوت
ذات دراية في الأعشاب، والمسكنات، والعلاجات الطبيعية
وربما الأهم: امرأة ذات قلب حنون، تعرف أن تهمس للألم حتى يسكن، بعض القابلات، كما ورد في النصوص، كنّ حاضرات في القصور والحرمسرا، ويُستدعين عند الضرورة للولادات الصعبة أو المعقّدة.
بين الدعاء والعلم… الولادة في الثقافة الإسلامية
كانت القابلة المسلمة تدمج العلم بالتوكل، الدعاء بالدواء، الإيمان بالعلاج. كانت تضع يدها على بطن الحامل، تقرأ آية الكرسي، ثم تفحص النبض، وتقيس درجة الحرارة.
في بعض المناطق، كانت تقرأ "سورة مريم" عند بدء الطلق، وتُعطى الأم ماءً قرئ عليه القرآن.
وإذا تعسّر المخاض، لجأت لبعض التعويذات التي رآها الناس نوعًا من البركة لا الخرافة، خصوصًا في المناطق الريفية.
أدوات القابلة… من الفطرة إلى الابتكار
رغم بدائية العصر، طوّر الأطباء والقابلات أدواتٍ لفحص الحوض، واستخراج الجنين، وتشخيص وضعه في الرحم. من هذه الأدوات:
المبولة: أداة تشخيصٍ مذكورة في كتب "الأخوينى".
الملقط: أداة ميكانيكية تُستخدم بلطف لإخراج الجنين.
المراهم والزيوت العطرية: لتسهيل الانقباضات وتقليل الألم.
الزهراوي، الطبيب الأندلسي، وضع رسومات لهذه الأدوات في كتبه التي تُعتبر من أقدم الأطالس الطبية المصورة.
أسماء خالدة في تاريخ طب النساء الإسلامي
عريب بن سعد الكاتبي: كتب عن تدبير الحوامل والمواليد.
ابن الجزار القيرواني: كتب في أمراض الأطفال والنساء.
ابن هندو وابن مندويه: تحدّثا عن طب الرضّع والرضاعة.
حتى نساء مثل أم عمرو، أخت الطبيب أبو بكر الزهراوي، كانت تُمارس الطب وتولّد النساء في قصور الموحدين بالأندلس.
توصيات الأطباء المسلمين للقابلات
ابن سينا:
أفرد في كتابه القانون أربعة أبواب لطب النساء والولادة والعقم.
وصف حالات تعسّر الولادة، وأسباب الإسقاط، وأهمية وضع الجنين الطبيعي في الرحم.
قال إن "اختلاف الطبع بين الزوجين قد يكون سبباً للعقم لا يُعالج بالدواء بل بالفهم".
الرازي:
خصص الجزء التاسع من كتاب الحاوي لأمراض الرحم والحمل والولادة.
قدّم وصفات لتهدئة آلام المخاض، وتوصيات لتيسير خروج الجنين والجفت.
الزهراوي:
وصف أدوات لتشخيص أمراض الرحم مثل "المِبُولة" و"السبيكولوم".
صمّم أدوات للولادة المعقدة، وعلّم القابلات كيف يخرجن الجنين برفق دون إيذاء الأم.
عادات وتقاليد الولادة في الماضي
كانت للولادة في الماضي عادات وتقاليد خاصة بها، وكانت مشقتها ومعاناتها تجهد المحيطين بالمرأة الحامل. فبمجرد أن تبدأ آلام الولادة، يبادر أهل الحامل إلى فرش الفراش في زاوية من الغرفة، ويعطونها قطعة من الطين المجفف (كُلوخ) ويطلبون منها أن تلقيها في بئر أو بركة المنزل وتقول: "يا كُلوخ، إن شاء الله كما تنفتح أنت، أن أضع حملي أيضاً".
ثم يُرسل أحدهم لإحضار القابلة، وتتوافد نساء الجيران وأقارب الحامل إلى منزلها، حيث تتولى كل منهن مهمة معينة في غرفة الولادة.
إحداهن تدق مسمارًا في إطار باب الغرفة حتى "يُسمَّر" ألم الحامل، وأخرى ترمي قشور البصل والثوم في النار ليسهّل ذلك ولادتها. وثالثة ترش مزيجًا من القلياب والخل عند عتبة الباب ليفسد أي سحر أو تعويذة وُضعت لها.
وتبدأ مجموعة من النساء في تلاوة ختم دعاء "أمّن يجيب" طلبًا للسلامة والعافية للحامل. وعند وصول القابلة، تطلب إحضار صينية كبيرة مملوءة بالرماد وبعض اللبنات (خِشْت)، وتُجلَس الحامل على أربع لبنات، وتوضع لبنة خامسة تحتها.
في هذه الأثناء، تجلس امرأة من الأقارب، يجب أن تكون قوية البنية وشجاعة، على مقعد صغير مقابل الحامل، وتُعرف بـ "المُقدّمة"، وهي تتحمل صراخ وآلام الحامل، من شدّ ودفع، وقد تُصاب بالإغماء أو تُجرح بعد الولادة، فتحتاج إلى من يعتني بها. وكانت القابلة تجلس خلف الحامل وتُعرف بـ "المُؤخرة".
تتكئ الحامل بجسدها على المُقدّمة، واضعة يديها على كتفيها، بينما تبدأ القابلة بعد غسل يديها بدهن راحتيها بزيت اللوز أو السمن البلدي، وتدلك بطن الحامل عدة دقائق حتى يعود الجنين إلى الوضع الطبيعي إن كان قد تحرّك من موضعه الصحيح.
بعد ذلك، تُسخَّن منشفة أو شرشف وتوضع عدة مرات حول خصر الحامل لتحفيز الدورة الدموية في منطقة الرحم والبطن وتسريع الولادة.
في هذه اللحظة، تقوم امرأة بنثر دخان الحرمل، وأخريات يُحضرن الماء المغلي ويشرعن بالدعاء والتكبير بصوت مرتفع.
ثم يُوضع نبات يُعرف بـ "كفّ مريم" في الماء، إذ كانوا يعتقدون أن السيدة مريم عندما جاءها المخاض في الصحراء ولم تجد ما تستند عليه، أمسكت بهذا النبات وشدّت عليه حتى ولدت النبي عيسى عليه السلام.
وأحيانًا، رغم كل هذه الطقوس، لا تتم الولادة، فيُعتقد حينها أن الحامل قد أقسمت قسمًا كاذبًا أثناء حملها، وها هي تُعاقب عليه. فيقومون بتوزيع التمر على الفقراء، ويصعد رجل من أهل البيت إلى السطح ويؤذّن، وعند سماع الناس للأذان في غير وقته، يعلمون أن هناك امرأة تلد، فيدعون لها بالفرج والسلامة.
وعند لحظة الولادة، كانت القابلة حريصة أن يولد الطفل فوق الطين (اللبنة) ليكون أوّل ما يلامسه من الحياة هو التراب، لأن الإنسان خُلق من تراب، وسيُدفن فيه بعد موته.
وبعد خروج الطفل، تضعه القابلة في الصينية فوق الرماد، ثم تسحب الحبل السُّري لإخراج المشيمة. وإن لم تخرج المشيمة، يُعطى للمرأة نرجيلة (قليان) وتُطلب منها النفخ بقوة.
وعند خروج المشيمة، تُغرز فيها عدة إبر وتُوضع في زاوية الغرفة حتى إذا دخل شخص ذو طالع نحس أو عين حاسدة، تمتصها المشيمة. ثم تُدفن لاحقًا سرًا في التراب.
وفي هذه الأثناء، تُطعم والدة الحامل ابنتها طعام "الكاچي"، وهو مزيج غني من الدهن والسكر والدقيق والزعفران.
ثم تبدأ القابلة بقطع السُرّة، وبعدها تضع بعض الملح المطحون في وعاء من الماء الدافئ وتغسل الطفل به. وكان استخدام الملح يهدف إلى تطهير الجسم وتقوية جلد الطفل وحمايته من الفساد والعدوى، وأيضًا ليكون الطفل "مملّحًا" وجميل الطلعة.
ثم يُلف الطفل بالقماش (القنداق)، ولحمايته من الأرواح الشريرة، تُرسم دائرة حول فراش الأم بأداة قطع، كالمقص أو السكين التي قُطعت بها سرته.
وتبقى الأم في الراحة لمدّة عشرة أيام، وتذهب بعدها إلى الحمّام. وخلال هذه الفترة، تزور القابلة الأم يوميًا، وتقوم بتغيير حفاض الطفل وتنظيفه، وتُعطي الأم وأهلها التعليمات اللازمة للعناية بالمولود.
وفي اليوم الثالث، تُعطى الحامل، حسب تعليمات القابلة، مقدار ثمانية مثاقيل من زيت الخروع وأربعة مثاقيل من زيت اللوز الحلو لتتناولها، كي تُنظف معدتها وأمعاءها من الثقل وتستعيد عافيتها، كما يقول العامة "ليخفّ ثقل رأسها".
أسئلة وجوابها
1. هل كانت القابلة جزءًا من النظام الطبي الإسلامي؟
نعم. لم تكن القابلة هامشية، بل شريكة الطبيب، ولها حضور دائم في نصوص الطب الإسلامي.
2. هل تم تدريس القابلة بشكل منهجي؟
نعم، بعض القابلات تلقين تعليمهن في مدارس الطب أو في مجالس خاصة بإشراف الأطباء.
3. هل كانت القابلة تحظى باحترام اجتماعي؟
بشكل كبير. كانت تُستشار في شؤون الزواج، الحمل، وطب الأعشاب، وكان يُهدى إليها الهدايا بعد كل ولادة ناجحة.
4. هل خلطت القابلة بين العلم والدين؟
نعم، لكن لا بشكل متناقض. الدعاء والقرآن كانا وسيلتين للدعم النفسي والروحي، لا بديلاً عن العلاج.
5. هل نستطيع اليوم إحياء هذا النموذج؟
بكل تأكيد. مهنة القابلة يجب أن تعود بروحها الرحيمة وعقلها المدرب، لتكون همزة وصل بين التراث والعلم الحديث.
شاركينا رأيك… واحكي لنا قصتك!
هل لديكِ ذكرى عن "داية" في قريتكِ أو حكاية جدتكِ عن ولادةٍ تمّت في بيت الطين؟
هل تعتقدين أن الماما اليوم فقدت جانبها الإنساني؟
اكتبي لنا رأيكِ في التعليقات، ودعينا نعيد الاعتبار لهذا الدور النبيل معًا.
ريحانة منتظرة صوتك… لا تبخلي علينا بكلمة!
التعلیقات