الغُلوّ ـ نشوءه وأسبابه
الدكتور عبد الرسول الغفار
منذ شهرالمجتمع الذي انتشر فيه الإسلام خلال القرن الأول الهجري هو المجتمع العربي في الجزيرة العربية وما والها من الأراضي المجاورة كالبصرة والكوفة واليمن والبحرين ثم مصر والشام ، ثم سائر البلدان بعد ذلك ، ولا يخفى أن تلك المجتمعات قبيل مجيء الإسلام كانت تعيش حالة من الاضطراب والغزو والنهب والفتك والفساد ، فالنازعات الشخصية والعصبية القبلية والأطماع المادية والمجون واللهو واللعب والسلب كل ذلك كان هو السائد في بلاد العرب وكانت قريش تتوسط هذه القبائل وهي الوحيدة احتفظت بميزات لم تكن لغيرها لما لها من شرف وسؤدد وسيادة.
ولما أصبح الإسلام قوياً واتسعت رقعته ، وأنذر الرسول بالرحيل إلى الرفيق الأعلى ، جعل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم الأمير والخليفة من بعده الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فوكّل إليه قيادة المسلمين لأنه وصيّه وخليفته من بعده يؤدّي عنه دينه وينجز له مواعيده (1). إلا أن هذا الجعل من قبل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لوصيّه علي بن أبي طالب عليه السلام لم تطب له نفوس بعض الصحابة ، إذ لم يرق لهم أن يروا علياً خليفة عليهم فما كانوا يتحملوا النبوة والخلافة في بني هاشم ...
لهذا طمع بالخلافة بُعيد وفاة الرسول وقبل تجهيزه كل من المهاجرين والأنصار وعلى رأسهم أبو بكر ، وعمر بن الخطاب ومن الأنصار سعد بن عبادة . فصدر منهم ما صدر وحدث الذي حدث في سقيفة بني ساعدة وحرّفت وصيّة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وغصبوا الخلافة ـ والتي هي حق شرعي سماوي ـ من الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ليتقمّصها الخليفة الأول ثم ليدلي بها إلى الثاني وهكذا شورى مفتعلة في ستة لينتهبها الثالث ...
في غضون ربع قرن على وفاة الرسول شهد العالم الإسلامي آنذاك صراع سياسي حاد بين كبار الصحابة ومن ثم بين كبار التابعين ليكون ثمرة هذا الصراع بشكيل اللّبنة الأولى للأفكار والعقائد التي برزت في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لتشكيل فيما بعد أبرز المذاهب والأحزاب السياسية آنذاك.
فالغلو في أيّة فكرة إنّما ينشأ في الوسط الفكري المضطرب والمشوب بالدّين أي في الوسط الذي يكون فيه صراع سياسي ديني وهذا ما حدث يوم وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فأنكر عمر بن الخطاب وفاته وتوعّد المسلمين بالقتل (2) وقال إن النبي لم يمت وأنه رفع إلى السماء و ... وهذا أول الغُلوّ ...
وغُلوّ كهذا له سببان في نشوئه ، إحداهما : ديني ظاهري والآخر سياسي خفي ، ومثل هذا قول بعض اليهود والنصارى للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم : يا محمد أتريد أن نعبدك ونتخذك ربّاً ؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم : معاذ الله أن نعبد غير الله وأن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني.
والذي سألاه أبو رافع القرظي والسيد النجراني.
فنشوء مثل هذا الغلو إنّما يكون في المركز الدينية والسياسية أي مركز الخلافة الإسلامية وحواليها.
والدواعي البارزة إنما هي ظاهرة متلبّسة باسم الدين ، والحقيقة إنّما هي دواعي خفيّة ذات مصالح سياسيّة ، كما اتضح ذلك من قول أبي رافع القرظي والسيد النجراني وعمر بن الخطاب. وكل ذاك إنما كان في المدينة عاصمة الخلافة الإسلامية.
ولما انتقلت الخلافة إلى العراق وأصبحت الكوفة المركز الرسمي لخلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، انتقل الصراع السياسي إلى هذا البلد وأصبح مركزاً مهمّاً لنشوء الأحزاب والمذاهب السياسية ومركزاً للصراع الفكري والعقائدي والمذهبي ، ثم الأحداث السياسية الخطيرة التي واجهها الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كانت لها دور كبير لنشوء أفكار وعقائد برزت منها معتقدات غالى أصحابها وشكّلت منعطفاً خطيراً في تاريخ المسلمين.
فمن تلك الأحداث المهمّة الحروب التي خاضها أمير المؤمنين عليه السلام ضد طلحة والزبير ، ومعاوية ، والخوارج ، فكانت الحروب الثلاثة المهمّة ؛ حرب الجمل في البصرة ، وحرب صفين ، والنهروان هي الحروب التي خلّفت معتقدات كثيرة منشؤها ذاك الاختلاف السياسي والصراع بين كبار الصحابة والتابعين ، والذي كان يدور خلافهم أوّلاً حول الخلافة والإمامة ثم تطوّر ليشمل تقديم الفاضل على المفضول أو بالعكس ، والخلاف في الحسن والقبح العقليين وهكذا الخلاف بين القيم والحادث وأمور أخرى مردّها سياسي بحت.
إذن الكوفة والبصرة أصبحتا من المراكز المهمّة في العالم الإسلامي إذ فيهما نشأت أهم الأحزاب السياسية والمذاهب الفكرية ، فالكوفة كانت علوية الهوى والبصرة كانت عثمانية المذهب.
ففي البصرة نشأت فكرة الاعتزال ، ونضجت فيها أفكار في الدين والسياسة والتي بعضها إلى الغلو أقرب.
وأما الكوفة ، فلم يستتب لها قرار بعد مقتل الإمام أمير المؤمنين عليه السلام ، وإنما أصبحت مركزاً عملياً كبيراً يجمع مختلف الطوائف والعقائد ، إلّا أن أبرزها هو الفكر الأصيل المتمثّل بخط أهل البيت عليهم السلام.
فاحتفظت بولائها للأئمة عليه السلام إلى جانب الإشعاع المذهبي الديني الذي كان يغذّيه الأئمة المعصومين عليهم السلام.
قد يتصور الباحث أن بإنتهاء الدولة الإسلامية الشرعية من الكوفة ستقوم مقامها دولة لقيطة في الشام يحكمها معاوية بن أبي سفيان ، ثم مصالحة الإمام الحسن عليه السلام لمعاوية ، سوف تنتقل الاضطرابات السياسة والأحزاب من العراق ـ وبالخصوص الكوفة ـ إلى الشام .. إلا أن هذا التصور غير صحيح ، بل بقيت الكوفة والبصرة مركزاً لتلك المناوشات الفكرية والسياسية والصراع الدموي الذي لم يشهد التاريخ له مثيلاً ...
ونوعز السبب الأول إلى الدولة الأموية نفسها ، ورغبة الحكّام الأمويين كمعاوية ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان ... إلى خلق أحاديث وافتعال أخبار ، والوضع على الرسول وتقويل الصحابة لصالحهم السياسي ولتثبيت شرعية حكومتهم ودولتهم ، لهذا برز أبو هريرة من الصحابة كأوّل وضّاع عرفه التاريخ الإسلامي.
ثم كثر الوضع في أحاديث الرسول وكثر الوضّاعون عليه نصرة للحزب الأموي وعلى رأسهم عمرو بن العاص وأبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعري ، والزهري محمد بن شهاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، والمغيرة بن شعبة ، وعروة بن الزبير ، وحريز بن عثمان ، وسيف بن عمر ، وعوانه بن الحكم الكوفي ، وغيرهم ...
وأهم شيء الذي حدث في خضمّ هذه الأجواء السياسية المتناحرة بسبب الأمويّين ، هو ظهور حركة جديدة وليدة الفساد والتسيّب السياسي ألا وهي حركة الزندقة في الكوفة ، ثم انتشرت في البصرة ، وبعدها في بغداد ، ثم اتسع نطاقها لتشمل بلاد فارس والصين وتركستان ...
وهذا هو الذي كان يطمح إليه حكّام الدولة الأموية لنشر الفساد في أوساط المسلمين والفاحشة ، ليكون سبباً من أسباب التخدير الجمعي وعزل المجتمع عن السياسة والسلطة ، وتحكم الأمويّين على الناس ، وقد حدث ...
وأوّل رجل بثّ فكرة الزندقة هو كعب الأحبار المعاصر لكبار الصحابة في صدر الإسلام كالخليفة أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ، وقد دخل كعب الأحبار الإسلام وأخذ يبثّ الأقاصيص والحكايات عن أسلافه اليهود والنصارى ، ولم يجد الخليفة الأوّل والثاني بدّ من رواج مثل تلك الأخبار والقصص المرتبطة بالأمم السالفة وهذا شأنه شأن تميم بن أوس الداري النصراني الذي سنحت له الفرصة أن يبثّ بين المسلمين أخبار اليهود والنصارى والحكايات والإسرائيليات كيفما شاء وذلك لمّا خصص له عمر بن الخطاب ساعة كل أسبوع يتحدث بها قبل صلاة الجمعة بمسجد الرسول. ولمّا جاء عثمان بن عفان سمح لتميم أكثر من قبل في التحدّث فجعلها ساعتين ليومين في الأسبوع.
أما كعب الأحبار فكان دوره خطيراً لأن كبار الصحابة كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان ومعاوية بن أبي سفيان كانوا يسألونه عن مبدأ الخلق وقضايا المعاد وتفسير القرآن ، وما إلى ذلك من العقائد والمفاهيم الإسلامية ، وهكذا أخذ كعب الأحبار مجموعة من الصحابة مثل عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وأبي هريرة ، وأنس بن مالك ، وعبد الله بن الزبير ...
وأكثر من ذلك ، فإن معاوية استعمل النصارى وقرب الكثير منهم ، فهذا الشاعر النصراني الأخطل ، استعمله معاوية لهجاء الأنصار وأهل البيت عليهم السلام ، قال الجاحظ في البيان والتبيين في سبب تقرب الأخطل النصراني إلى معاوية :
إن معاوية أراد أن يهجو الأنصار لأنّ أكثرهم كانوا أصحاب علي بن أبي طالب ولا يرون رأي معاوية في الخلافة ، فطلب ابنه يزيد من كعب بن جعيل أن يهجوهم فأبى ذلك وقال : ولكني أدلل على غلام منا نصراني ، كان لسانه لسان ثور لا يبالي أن يهجوهم فدلّهم على الأخطل (1) .
كيفما كان ، فإن الزندقة صادفت لها رواجاً عند بعض النفوس الطائشة وأهل الشذوذ وقد انتشرت في الكوفة والبصرة وشجّع عليها بعض حكّام الدولة الأموية كالوليد الثاني الأموي 125 ـ 126 هـ ومروان بن محمد ، تلميذ الجعد بن درهم لذا سمّي مروان بن محمد الجعدي ت 132.
وروّج للزندقة بعض الشعراء والأدباء كعبد الله بن المقفع 106 ـ 142 هـ ومطيع بن أياس الذي مات في خلافة الرشيد ، وبشّار بن برد ، ويحيى بن زياد الحارثي ، وحمّاد عجرد وحمّاد الراوية وحمّاد بن الزبرقان النحوي وكان أغلب هؤلاء الشعراء والأدباء في الكوفة.
ذكر ابن قتيبة في طبقات الشعراء نصّاً قال فيه :
كان في الكوفة ثلاثة يقال لهم الحمّادون : حماد عجرد وحماد الراوية ، وحمّاد بن الزبرقان النحوي وكانوا يتعاشرون وكانوا كلهم يرمون بالزندقة (3).
أما من المتكلمين فانتشرت الزندقة بترويج عبد الكريم بن أبي العوجاء ، الذي أثار التشكيك في كل المعتقدات الإسلامية وبين الأحداث من المسلمين حتى أنه كان يستهزىء بالحج والطواف ورمي الجمار ، وكان يسخر من الصلاة وهكذا حتى وصل به الأمر أن يعلن كفره بالنبي وبالله وأمام الناس وفي مسجد الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
قال محمد بن سنان ، حدّثني المفضّل بن عمر قال : كنت ذات يوم بعد العصر جالساً في الروضة بين القبر والمنبر ، وأنا مفكر فيما خصّ الله تعالى به سيدنا محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم من الشرف والفضائل ، وما منحه وأعطاه وشرّفه وحباه مما لا يعرفه الجمهور من الأمة وما جهلوه من فضله وعظيم منزلته ، وخطير مرتبته فإني لكذلك إِذْ أقبل ابن أبي العوجاء فجلس بحيث اسمع كلامه فلما استقرّ به المجلس إِذْ رجل من أصحابه قد جاء فجلس إليه ، فتكلّم ابن أبي العوجاء فقال : لقد بلغ صاحب هذا القبر العز بكماله ، وحاز الشرف بجميع خصاله . ونال الحظوة في كل أحواله ، فقال له صاحبه : إنه كان فيلسوفاً ادّعى المرتبة العظمى والمنزلة الكبرى ، وأتى على ذلك بمعجزات بهرت العقول ، وضلّت فيها الأحلام ، وغاصت الألباب على طلب علمها في بحار الفكر ، فرجعت خاسئات هي حسّر ، فلمّا استجاب لدعوته العقلاء والفصحاء والخطباء ، ودخل الناس في دينه أفواجاً ، فقرن اسمه باسم ناموسه فصار يهتف به على رؤوس الصوامع ، في جميع البلدان والمواضع التي انتهت إليها دعوته ، وعلتها كلمته ، وظهرت فيها حجّته براً وبحراً ، سهلاً وجبلاً في كل يوم وليلة خمس مرات مردداً في الأذان والإقامة ، ليتجدد في كل ساعة ذكره ، ولئلا يخمل أمره.
فقال ابن أبي العوجاء : دع ذكر محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد تحيّر فيه عقلي ،
وضلّ في أمره فكري.
حدّثنا في ذكر الأصل الذي نمشي له ...
ثم ذكر ابتداء الأشياء ، وزعم أن ذلك بإهمال لا صنعة فيه ولا تقدير ولا صانع ولا مدبر بل الأشياء تتكون من ذاتها بلا مدبّر ، وعلى هذا كانت الدنيا لم تزل ولا تزال (5) وللإمام الصادق عليه السلام عدة محاورات ومناظرات حاسمة أفحم بها ابن أبي العوجاء ، وهكذا للمفضل بن عمر محاورات معه ولهذا السبب أملى الإمام الصادق عليه السلام كتاب التوحيد على المفضّل في أربعة مجالس في أربعة أيام (6).
أمّا ابن أبي العوجاء أخذ يتنقّل في الأمصار والبلدان يبثّ فكره الإلحاد بين الناس حتى قبل في سنة 155 هـ على يد والي الكوفة محمد بن سليمان زمن أبي جعفر المنصور العباسي ، قال الطبرسي فيه :
ذكر أن محمد بن سليمان أتى في عمله على الكوفة بعبد الكريم بن أبي العوجاء وكان خال معن بن زائدة فأمر بحسبه ، قال أبو زيد فحدّثني قثم ابن جعفر والحسين بن أيوب وغيرها أن سفهاءه كثروا في مدينة السلام ثم ألحّوا على أبي جعفر فلم يتكلم فيه إلّا ظنين فأمر بالكتاب إلى محمد بالكف عنه إلى أن يأتيه رأيه فكلّم ابن أبي العوجاء أبا الجبّار وكان منقطعاً إلى أبي جعفر ومحمد ثم إلى أبنائهما بعدهما فقال له : إن أخّرني الأمير ثلاثة أيام فله مائة ألف ولك أنت كذا وكذا ، فاعلم أبو الجبار محمداً فقال أذكرتنيه والله قد كنت نسيته ، فإذا انصرفت من الجمعة فاذكرنيه ، فلما انصرف اذكره فدعا به وأمر بضرب عنقه ، فلما أيقن أنه مقتول قال : أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال وأحلل فيها الحرام ، والله لقد فطّرتكم في يوم صومكم وصوّمتكم في يوم فطركم فضربت عنقه (7) ...
وفي لسان الميزان قال :
إنه كان في البصرة ، وصار في آخر أمره ثنوياً ، وكان يفسد الأحداث ، فتهدّده عمرو بن عبيد ، فلحق بالكوفة فدل عليه محمد بن سليمان والي الكوفة فقتله وصلبه (8).
أجواء كهذه تنتشر فيها الزندقة والأفكار الدخيلة ، ويبرز فيها التناحر العقائدي والصراع السياسي والمخاصمات المذهبية وتعدد الأحزاب إنها أجواء مناسبة لظهور الغُلوّ فيها ، فإن بيئة الكوفة والبصرة كانتا ملائمة جداً لنشوء كل فكرة لها مساس بالحياة السياسية آنذاك . وقد عرفنا بأن الغلو هو ظاهرة من ظواهر الفساد العقائدي والانحطاط الفكري الذي ينشأ في الوسط السياسي المضظرب وفي الأجواء التي تسودها النزاعات الدينية ، كما أنه نشأ في المراكز الحسّاسة من نقاط الدولة الإسلامية وبالذات في الكوفة والبصرة وبغداد أما الأماكن البعيدة عن مركز الخلافة والدولة فإن التأثير فيها أقل ، لبعدها عن الاضطرابات السياسيّة والنزاعات ...
وهذا يدلّل أن سبب نشوء الغلو في العقائد والأفكار الدينية إنّما هو سبب سياسي بالدرجة الأولى.
ومن الأسباب الأخرى لنشوء الغُلوّ :
ثانياً : الإنحراف في العقائد الدينيّة المتبنّاة في بدء الأمر.
ثالثاً : الأطماع الشخصية والنزوات الفردية.
رابعاً : الإنحراف الجنسي ، وهو من الأسباب المهمّة لانتشار الغُلوّ وذلك أن الكثير من المغالين كانوا مصابين إما بداء قوم لوط أو أنهم يبيحون نكاح المحارم أو أنهم يشتهون الغلمان وكل ذلك متولد من الشذوذ الجنسي والعقد النفسية.
قال أبو عمر الكشي : وقالت فرقة بنبوة محمد بن نصير النميري ، وذلك أنه ادّعى أنه نبي رسول ، وأن علي بن محمد العسكري عليه السلام أرسله ، وكان يقول بالتناسخ والغلو في أبي الحسن عليه السلام ويقول فيه بالربوبية ، ويقول بإباحة المحارم ، ويحلل نكاح الرجال بغضهم بعضاً في أدبارهم ، ويقول إنه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيبات ، وأن الله لم يحرم شيئاً من ذلك.
وكان محمد بن موسى بن الحسن بن فرات يقوي أسبابه ويعضّده ، وذكر أنه رأى بعض الناس محمد بن نصير عيناً ، وغلام له على ظهره ، وأنه عاتبه على ذلك فقال : إن هذا من اللذات وهو من التواضع لله وترك التجبر ، وافتراق الناس فيه بعده فرقاً (9).
وفي الأغاني قال : وكان مطيع ـ ابن أياس ـ يرمىٰ بمرض قوم لوط ، فدخل عليه قومه فلاموه على فعله ، وقالوا له : أنت في أدبك وشرفك وسؤددك ترمىٰ بهذه الفاحشة القذرة ، فلو أقصرت عنها.
فقال : جرّبوه أنتم ، ثم دعوا إن كنتم صادقين . فانصرفوا عنه وقالوا : قبح الله فعلك وعذرك وما استقبلتنا به (10).
وأخبار هؤلاء الغلاة والزنادقة كثيرة في ولوعهم بالغلمان وانتشار داء قوم لوط بينهم.
خامساً : الأمن من سطوة الحكام والانفلاة في الانضباط ، وهذا السبب دفع بالغلاة أن يتحدّثوا في كل مكان من غير أن يردعهم رادع أو يحدّثهم خوف من سلطان أو قائد أو والي ، بل إن حكّام الدولتين الأموية والعباسية كانت ترغب في انتشار هذه الأمور والخرافات والترهات بين الناس وتغضّ الطرف عنها ، وهذه سياسة كل حكومة لا ترى من وجودها أو كيانها المبرر الشرعي ، فلا بدّ إذن من السكوت عن هذه وأمثالها وترك الناس في صراعاتهم حتى يصفو لهم الجو ويخلو من منافس.
سادساً : الهروب من العبادات والركون إلى اللهو والدعة والتمرد على الخالق ، في أمالي الطوسي بإسناده عن فضيل بن يسار قال : قال الصادق عليه السلام : احذروا على شبابكم الغلاة لا يفسدوهم فإن الغلاة شر خلق الله ، يصغرون عظمة الله ويدعون الربوبية لعباد الله ، والله إن الغلاة لشر من اليهود والنصارى والمجوس والذين أشركوا ، ثم قال عليه السلام : إلينا يرجع الغالي فلا نقبله ، وبنا يلحق المقصّر فنقبله ، فقيل له : كيف ذلك يا ابن رسول الله.
قال :
الغالي قد اعتاد ترك الصلاة والزكاة والصيام والحج فلا يقدر على ترك عادته وعلى الرجوع إلى طاعة الله أبداً ، وإن المقصر إذا عرف عمل وأطاع (11).
سابعاً : ومن أسباب الغُلوّ هي المصالح المادية وابتزاز الناس أموالهم والأكل بالباطل وهذا ما فعله الحلاج ، الحسين بن منصور الذي ادّعى الربوبية وقال بالتناسخ وأصحابه قالوا إن اللاهوت حل فيه ...
في عام 299 هـ ادّعى للناس إنه إله وإنه يقول بحلول اللاهوت في الأشرف من الناس ، وانتشر له في الحاشية ذكر عظيم ، ووقع بينه وبين الشبيلي وغيره من مشايخ الصوفية ، فبعث به المقتدر إلى عيسى ليناظره ، فأحضر مجلسه وخاطبه خطاباً فيه غلظة ، فحكى أنه تقدم إليه وقال له فيما بينه وبينه : قف من حيث انتهيت ولا تزد شيئاً وإلا خسفت الأرض من تحتك ، وكلاماً في هذا المعنى ، فتهيّب عيسى مناظرته واستعفى منها ، فنقل في سنة 309 هـ إلى حامد بن العباس الوزير ، فحدث غلام لحامد كان موكّلاً بالحلّاج قال : دخلت عليه يوماً ومعي الطبق الذي عادتي أن أقدمه إليه كل يوم فوجدته قد ملأ البيت نفسه وهو من سقفه إلى أرضه وجوانبه ليس فيه موضع ، فهالني ما رأيت وبقي مدة محموماً ، فكذّبه حامد وشتمه وقال : ابعد عني ، وكان دخوله إلى بغداد مشهراً على جمل وحبس في دار المقتدر ، وأفتى العلماء بإباحة دمه.
وكان الحلّاج قد أنفذ أحد أصحابه إلى بلد من بلدان الجبل ووافقه على حيلة يعملها ، فخرج الرجل فأقام عندهم سنتين يظهر النسك والعبادة وقراءة القرآن والصوم ، فغلب على البلد حتى إذا تمكّن أظهر أنه عمي فكان يقاد إلى مسجده ويتعامىٰ في كل أحد شهوراً ، ثم أظهر أنه زَمِن فكان يحبو ويحمل إلى المسجد حتى مضت سنة وتقرر في النفوس عماه وزمانته فقال لهم بعد ذلك : رأيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في النوم يقول أنه يطرق هذا البلد عبد صالح مجاب الدعوة تكون عافيتك على يديه ودعائه ، فاطلبوا لي كل من يجتاز من الفقراء أو من الصوفية لعل الله تعالى يفرّج عني ، فتعلقت النفوس لورود العبد الصالح ومضى الأجل الذي بينه وبين الحلّاج فقدم البلد ولبس الثياب الصوف الرقاق وتفرّد في الجامع فقال الأعمى : احملوني إليه ، فلمّا حصل عنده وعلم أنه الحلّاج قال له : يا عبد الله رأيت في النوم كذا وكذا فادع الله تعالى لي ، فقال : ومن أنا وما تحكي . ثم دعى له ومسح يده عليه فقام مبصراً صحيحاً ، فانقلب البلد وكثر الناس على الحلّاج ، فتركهم وخرج من البلد وأقام المُتعامي المبرأ مما فيه شهوراً ثم قال لهم : إن من حق الله عندي ورده جوارحي عليّ أن أنفرد بالعبادة انفراداً أكثر من هذا ، وأن يكون مقامي في الغزو ، وقد عملت على الخروج إلى طرطوس ، فمن كانت له حاجة يحملها ، فأخرج هذا ألف درهم وقال اغز بهذه عني ، وأخرج هذا مائة دينار وقال : أخرج بها غزاة من هناك ، وأعطاه كل أحد شيئاً فاجتمع له ألوف دنانير ودراهم ، فلحق بالحلّاج وقاسمه عليها (12).
ومن أمثال الحلاج وابن أبي العزاقر العشرات بل المئات الذين أظهروا الزهو ولبسوا ثياب الصوفية وخدعوا الناس بشتّى ألوان الخداع والمكر والشعوذة ليديروا منها معاشهم ويصلحوا شأنهم المادي.
لقد صدرت من الحلاج عدة مقولات تؤكّد على كفره ، ومنها قوله :
( أنا الحق ) وقوله : ( ما في الجبة إلا الله ).
ومن الشعر قوله المشهور :
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له |
إيّاك إيّاك أن تبتلَّ بالماء (13) |
ومما ينسب إليه :
أرسلت تسأل عني كيف كنت وما |
لاقيت بعدك من هم ومن حزن |
|
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا |
لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن (14) |
وقد انخدع بالحلّاج جماعة من الناس حيث كان يوجّه إليهم الكتب والمراسلات ويدعوهم إلى نفسه ويوهمهم أنه الباب والوكيل من قبل الإمام صاحب الزمان ( عج ) ولما أراد الله أن يفضحه ويكشفه للناس ، أنه كتب إلى أبي سهل بن إسماعيل بن علي النوبختي يقول له في مراسلة إياه :
إني وكيل صاحب الزمان عليه السلام وقد أمرت بمراسلتك وإظهار ما تريده من النصرة لك لتقوي نفسك ، ولا ترتاب بهذا الأمر.
فأرسل إليه أبو سهل يقول له :
إني أسألك أمراً يسيراً يخفّ مثله عليك ، وفي جنب ما ظهر على يديك ، من الدلائل والبراهين ، هو أني رجل أحب الجواري وأصبوا إليهن ، ولي منهن عدة اتحظاهن والشيب يبعدني عنهن ، وأحتاج أن أخضبه في كل جمعة وأتحمّل منه مشقة شديدة لاسترغبهن ذلك ، وإلا انكشف أمري عندهن ، فصار القرب بعداً ، والوصال هجراً وأريد أن تغنيني عن الخضاب وتكفيني مؤنته ، تجعل لحيتي سوداء ، فإني طوع يديك ، وصائر إليك ، وقائل بقولك ، وداع إلى مذهبك مع ما لي في ذلك من البصيرة ولك من المعونة.
فلما سمع ذلك الحلّاج من قوله وجوابه ، علم أنه أخطأ في مراسلته وجهل في الخروج إليه بمذهبه.
ثامناً : من أسباب الغُلوّ هو التسلط على الرقاب وطلب الرياسة والزعامة.
فهؤلاء الذين ادّعوا الألوهية أو النبوة ، إنّما تخيّلوها ملكاً ومنزلة ينالها الإنسان بمجاهداته ودهائه ، فما كانوا يتعقّلوا أن ، الربوبية والعبودية لله وحده لا شريك له خالق الكائنات باريء النسمة ، الواحد الأحد الفرد الصمد ...
كما أن النبوة ليست من صنع انسان عاجز ولا منصب يناله المرء من حيث يشتهي أو يتمنّى بل إنها منصب إلهي يختار الله لرسالته من يشاء حيث هي عبء كبير يختار الله تعالى له من يصلح من البشر ...
لكن هؤلاء الذين في قلوبهم مرض ويعتريهم الهوس والخبل ذهبوا إلى أطماعهم وسوّلت لهم أنفسهم لأن يدّعوا النبوة لهم.
الكشي بإسناده عن علي بن عقبة ، عن أبيه قال دخلت على أبي عبد الله عليه السلام قال فسلّمت وجلست ، فقال لي : كان في مجلسك هذا أبو الخطاب ، ومعه سبعون رجلاً كلّهم إليه ينالهم منهم شيء رحمتهم فقلت لهم : ألا أخبركم بفضائل المسلم ، فلا أحسب أصغرهم إلا قال : بلى جعلت فداك.
قلت : من فضائل المسلم أن يقال : فلان قارئ كتاب الله عزّ وجلّ ، وفلان ذو حظ من ورع ، وفلان يجتهد في عبادته لربه ، فهذه فضائل المسلم ، ما لكم وللرياسات . إنما المسلمون رأس واحد ، إياكم والرجال فإن الرجال للرجال مهلكة.
فإني سمعت أبي يقول : إن شيطاناً يقال له المذهب يأتي في كل صوره : إلا أنه لا يأتي في صورة نبي ولا وصي نبي ، ولا أحسبه إلا وقد تراءى لصاحبكم فاحذروه فبلغني أنهم قتلوا معه فأبعدهم الله وأسحقهم إنه لا يهلك على الله إلا هالك (15).
الهوامش
1. الأحاديث في ذلك كثيرة جداً بلغت حد الشهرة والتواتر منها ما كان في غدير خم ، ومنها حديث الثقلين ، ومنها حديث المنزلة ...
2. سيأتي التفصيل في الصفحات القادمة إن شاء الله.
3. البيان والتبيين 1 / 86.
4. طبقات الشعراء 663.
5. توحيد المفضل 41.
6. المصدر السابق 30.
7. تاريخ الطبري 6 / 299.
8. لسان الميزان 4 / 52.
9. رجال الكشي 6 / 804.
10. الأغاني 12 / 78.
11. أمالي الطوسي 54.
12. وفيات الأعيان 2 / 143.
13. ديوان الحلاج 122.
14. ديوان الحلاج 118.
15. الكشي 4 / 582.
مقتبس من كتاب : شبهة الغلو عند الشيعة / الصفحة : 36 ـ 48
التعلیقات