عليٌّ عليه السلام مع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ساعات الوداع
اسلام الموسوي
منذ شهرمرض النبيِّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وبعثة أُسامة :
لمَّا قدم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المدينة المنوَّرة ، من حجِّ الوداع ، أقام أيَّاماً وعقد لأُسامة بن زيد ، علىٰ جُلَّة من المهاجرين والأنصار ـ منهم أبو بكر وعمر ـ وأمره أن يقصد حيث قُتل أبوه ، وقال له : « أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم » ، فتكلَّم المنافقون في إمارته ، وقالوا : أمَّر غلاماً علىٰ جلَّة المهاجرين والأنصار ! فاشتكىٰ إلىٰ رسول الله صلّى الله ليه وآله وسلّم ذلك ، فغضب
رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وقال : « إن تطعنوا في إمارته ، فقد طعنتم في إمارة أبيه من قبل ، وإنَّه لخليق للإمارة ، وكان أبوه خليقاً لها » (1).
واشتدَّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجعه ، فتأخَّر مسير أُسامة لمرض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وثقل رسول الله ، ولم يشغله شدّة مرضه عن إنفاذ أمر الله ، فقال : « أنفذوا جيش أُسامة » ! قالها مراراً ، وإنَّما فعل عليه السلام ذلك لئلا يبقىٰ في المدينة عند وفاته من يختلف في الإمامة ، ويطمع في الإمارة ، فيستوسق الأمر لأهله (2).
وروى بعضهم أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أحس منهم التباطؤ ، كان يكرر قوله : « أنفذوا بعثة أُسامة » ثم يقول : « لعن الله من تخلّف عنه » (3).
وقد أثبتت المصادر التاريخية أنّ في هذا الجيش أُناساً من كبار الصحابة ، منهم أبو بكر وعمر (4).
الرزية كلُّ الرزية :
لم يكن موقف رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من خلافة الإمام عليٍّ عليه السلام يوم غدير خُمٍّ آخر المواقف التي صرَّح فيها بأنَّه الوصي من بعده ، بل حينما اشتدَّ به مرضه وعلم بما ستقع به أُمَّته من الاختلاف من بعده ، أراد أن يصرِّح بها ؛ فقال : « ائتوني بدواة وكتف أكتب لكم كتاباً لا تضُّلون بعده أبداً » ثُمَّ أُغمي عليه ، وقام أحدهم ليلتمس الدواة والكتف ، فقال عمر : ارجع فإنَّه يهجر ـ أو غلبه الوجع ـ حسبنا كتاب الله !!
فما زال يمنع منها حتىٰ كثر التنازع ؛ فغضب النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأخرجهم من عنده ، فقال ـ بعد أن عرضوا عليه الدواة والكتف ـ : « دعوني ، فالذي أنا فيه خير ».
هنا كان يتوجَّع ابن عبَّاس ويقول : « يوم الخميس ، وما يوم الخميس ! » ثُمَّ بكىٰ حتَّىٰ بلَّ دمعه الحصىٰ . فقيل له ـ والرواية عن سعيد بن جُبير ـ : يا ابن عبَّاس ، وما يوم الخميس ؟
قال : « اشتدَّ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وجعه ، فقال : « ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلُّون بعدي » فتنازعوا ، وما ينبغي عند نبيٍّ تنازع ، وقالوا : ما شأنه ، أهَجَر ؟ استفهموه ! قال : « دعوني ، فالذي أنا فيه خير » ». فكان ابن عبَّاس يقول : « إنَّ الرزية كلَّ الرزية ما حال بين رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم » (5).
عليٌّ عليه السلام وآخر لحظات الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم :
لمَّا كثر التنازع عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، كما رأينا سابقاً بشأن الكتاب ، وخرجوا من عنده ، قال : « رُدُّوا عَلَيَّ أخي عَلِيَّ بن أبي طالب ». ولمَّا حضر قال : « ادنُ منِّي » فدنا منه فضمَّه إليه ، ونزع خاتمه من يده ، فقال له : « خُذ هذا فضعه في يدك » ودعا بسيفه ودرعه ولامته ، فدفع جميع ذلك إليه ، وقال له : « اقبض هذا في حياتي » ودفع إليه بغلته وسرجها وقال : « امضِ علىٰ اسم الله إلىٰ منزلك » (6).
وكان عليٌّ عليه السلام لا يفارقه إلَّا لضرورة ، ولمَّا خرج لبعض شأنه قال لهم : « أُدعوا لي أخي وصاحبي » وفي رواية : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له أبا بكر ، فنظر إليه ، ثم وضع رأسه ، ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فدعوا له عمر ، فلما نظر إليه وضع رأسه ثم قال : « ادعو لي حبيبي » فقالت أُمُّ سلمة : أُدعوا له عليَّاً ، فدُعي أمير المؤمنين عليه السلام ، فلمَّا دنا منه أومأ إليه فأكبَّ عليه ، فناجاه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم طويلاً (7) ، ولمَّا سُئل عن ذلك قال : « علَّمَني ألف باب من العلم ، فتح لي من كلِّ باب ألف باب (8) ، ووصَّاني بما أنا قائمٌ به إن شاء الله » (9).
ولمَّا قرب خروج تلك النفس الطيِّبة إلىٰ جنان الخلد وسدرة المنتهىٰ قال له : « ضع رأسي يا عليُّ في حجرك ، فقد جاء أمر الله عزَّ وجلَّ فإذا فاضت نفسي ، فتناولها بيدك وامسح بها وجهك ، ثُمَّ وجِّهني إلىٰ القبلة وتولَّ أمري ، وصلِّ عليَّ أوَّل الناس ، ولا تفارقني حتَّىٰ تواريني في رمسي ، واستعن بالله عزَّ وجلَّ ».
ثمَّ قضىٰ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، ويد أمير المؤمنين اليمنىٰ تحت حنكه ، ففاضت نفسه ، فرفعها إلىٰ وجهه فمسحه بها ، ثُمَّ وجَّهه وغمَّضه ومدَّ عليه إزاره واشتغل بالنظر في أمره ..
ولمَّا أراد عليٌّ عليه السلام غسله استدعىٰ الفضل بن العبَّاس ، فأمره أن يناوله الماء ، بعد أن عصَّب عينيه ، فشقَّ قميصه من قبل جيبه ، حتىٰ بلغ به إلىٰ سرَّته ، وتولَّىٰ غسله وتحنيطه وتكفينه ، والفضل يناوله الماء ، فلمَّا فرغ من غسله وتجهيزه تقدَّم فصلَّىٰ عليه (10).
هذه خاتمة ثلاثين عاماً من الجهاد مع هذا الإنسان العظيم المسجَّىٰ اليوم بين يدي عليِّ بن أبي طالب ، فكانت النهاية أن وارىٰ جسده التراب وما أصعبها من نهاية !!
أمَّا البداية فقد احتضن محمَّد بن عبد الله عليَّاً في حجره وهو وليد ، وها هو عليٌّ يحتضن محمَّداً علىٰ صدره في آخر رمق من حياته ! آه فطبت حيَّا وميِّتاً ..
ولنقرأ ما قاله عليُّ بن أبي طالب عليه السلام وهو يصفُ هذه الخاتمة المؤلمة :
« ولقد قُبِض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ، وإنَّ رأسه لعلىٰ صدري ، ولقد سالت نفسه في كفِّي ، فأمررتُها علىٰ وجهي ، ولقد وُلِّيتُ غسله صلّى الله عليه وآله وسلّم والملائكة أعواني ، فضجَّت الدار والأفنية : ملأ يهبط ، وملأ يعرج ، وما فارقتْ سمعي هينمةٌ منهم ، يصلُّون عليه ، حتَّىٰ واريناه ضريحه » (11).
وبعد هذه النهاية المفجعة تتساقطُ قطرات الدمع من عليٍّ عليه السلام حزناً منه علىٰ فراق أخيه محمَّد بن عبد الله ، الرسول ، الأمين صلّى الله عليه وآله وسلّم ، فيضجُّ صدره بالآلام والمحن ، ويقف علىٰ شفير قبر أخيه مطأطأ رأسه ، والدمع يجري كحبَّات لؤلؤ تناثرت علىٰ خدَّيه ، وهو يقول : « بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوة والأنبياء وأخبار السماء ، خصَّصت حتى صرت مسلِّياً عمّن سواك ، وعمَّمت حتى صار الناس فيك سواء . ولولا أنك أمرت بالصبر ، ونهيت عن الجزع ؛ لانفدنا عليك ماء الشؤون » (12).
الهوامش
1. الكامل في التاريخ 2 : 182 ، الطبقات الكبرىٰ 2 : 146 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 113. وكان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قد أمّر زيد بن حارثة ، أبا أسامة ، في غزوة مؤتة ، وفيها استشهد رضوان الله عليه.
2. إعلام الورىٰ 1 : 263.
3. الشهرستاني / الملل والنحل 1 : 29.
4. ابن سعد الطبقات الكبرى 4 : 66 ، ترجمة اسامة بن زيد ، تهذيب تاريخ دمشق 2 : 395 ، 3 : 218 ، مختصر تاريخ دمشق 4 : 248 / 237 ، 5 : 129 / 56 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 77 ، تاريخ الخميس 2 : 172.
5. ذكرت بعدَّة صيغ في كلٍّ من : صحيح مسلم ـ كتاب الوصية 3 : 1257 / 1637 ، مسند أحمد 1 : 222 ، مسند أبي يعلىٰ 4 : 298 / 2409 البداية والنهاية 5 : 200 ، الطبقات الكبرىٰ 2 : 188 ، صحيح البخاري ـ كتاب المرضىٰ 7 : 219 / 30 ، الكامل في التاريخ 2 : 182 ، إعلام الورىٰ 1 : 265 ، تاريخ ابن خلدون 2 : 485 تحقيق الأستاذ خليل شحادة وسهيل زكار ، الملل والنحل ـ المقدِّمة الرابعة : 29.
6. إعلام الورىٰ 1 : 266 ـ 269.
7. انظر الحديث بألفاظه المتقاربة في : ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق 3 : 17 / 1036 ، الرياض النضرة 3 : 141 ، ذخائر العقبى : 73 ، المناقب للخوازرمي : 29.
8. كنز العمَّال 13 : 114 ح / 36372 ، ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في ترجمة الإمام عليٍّ منه 2 : 485 / 1012 ، والجويني في فرائد السمطين 1 : 101 / 70.
9. إعلام الورىٰ 1 : 266.
10. إعلام الورىٰ 1 : 266 ـ 269 ، ارشاد المفيد 1 ؛ 187 ، تاريخ اليعقوبي 2 : 114 ، الطبقات الكبرىٰ 2 : 201ـ 202 ، 212 ـ 215 ، 220 ، تهذيب الكمال 13 : 298 ، مجمع الزوائد ، باب إسلامه 9 / 103.
11. نهج البلاغة ، الخطبة : 197.
12. نهج البلاغة ، الخطبة : 235.
مقتبس من كتاب : الإمام علي عليه السلام سيرة وتاريخ / الصفحة : 108 ـ 112
التعلیقات