ولادة الإمام المهدي في كلام الإمام العسكري: إثبات الغيبة وثبات العقيدة
الشيخ مهدي المجاهد
منذ ساعةمنذ بدء الخليقة، كان وجود الحجة الإلهية ضرورة لضمان استمرارية الارتباط بين السماء والأرض. ففي كل زمان، كان هناك نبي أو إمام معصوم منصوب من قبل الله تعالى يتولى توجيه الناس إلى الصراط المستقيم، ويمثل الحجة الإلهية التي تحفظ الأرض من الفساد والهلاك.
إن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف يشكل خاتمة سلسلة الحجج الإلهيين، وقد أكرم الله بعض الأصحاب المخلصين بفرصة رؤية الإمام خلال حياة والده الإمام الحسن العسكري عليه السلام، لإثبات ولادته والإشارة إلى مهمته الكبرى التي ستتحقق في آخر الزمان. كان من بين هؤلاء المخلصين أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري، الذي حملت روايته رسالة أمل وإيمان عميقين بمقام الإمام المنتظر ودوره في تحقيق العدالة الإلهية.
الرواية ومضمونها العقائدي
يروي الحديث الشريف أن أحمد بن إسحاق ، وهو من خواص أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، دخل عليه وهو عازم على السؤال عن الإمام والخليفة من بعده. فبادره الإمام عليه السلام بالقول : « يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ : إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى لَمْ يُخَلِّ الْأَرْضَ مُنْذُ خَلَقَ آدَمَ عليه السلام ، وَ لَا يُخَلِّيهَا إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ مِنْ حُجَّةٍ لِلَّهِ عَلَى خَلْقِهِ بِهِ يَدْفَعُ الْبَلَاءَ عَنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَ بِهِ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَ بِهِ يُخْرِجُ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ ».
هذا البيان يحمل مضامين عميقة عن فلسفة الإمامة في العقيدة الإمامية. فوجود الحجة الإلهية على الأرض ضروري لاستمرار النعمة الإلهية وحفظ النظام الكوني. الإمام هو الوسيط بين الله وعباده، وبه تستمر الحياة الروحية والمادية، حتى لو لم يكن ظاهرًا للعيان وهو في غيبة.
ويدل هذا على علم الإمام عليه السلام بالغيب، إذ بادر بالإجابة قبل أن يطرح أحمد بن إسحاق سؤاله، مما يُظهر أن الإمام كان يعلم ما يدور في نفسه قبل أن ينطق به.
قَالَ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ ، فَمَنِ الْإِمَامُ وَ الْخَلِيفَةُ بَعْدَكَ؟
عندما طلب أحمد بن إسحاق معرفة اسم الخليفة بعد الإمام الحسن العسكري عليه السلام ، « فَنَهَضَ عليه السلام مُسْرِعاً فَدَخَلَ الْبَيْتَ ، ثُمَّ خَرَجَ وَ عَلَى عَاتِقِهِ غُلَامٌ كَأَنَّ وَجْهَهُ الْقَمَرُ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، مِنْ أَبْنَاءِ الثَّلَاثِ سِنِينَ.
فَقَالَ : يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ ، لَوْ لَا كَرَامَتُكَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ وَ عَلَى حُجَجِهِ مَا عَرَضْتُ عَلَيْكَ ابْنِي هَذَا.
إِنَّهُ سَمِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وَ كَنِيُّهُ ، الَّذِي يَمْلَأُ الْأَرْضَ قِسْطاً وَ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ جَوْراً وَ ظُلْماً.
يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ ، مَثَلُهُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَثَلُ الْخَضِرِ عليه السلام ، وَ مَثَلُهُ مَثَلُ ذِي الْقَرْنَيْنِ ».
هذا التصريح كان إعلانًا صريحًا عن ولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وهويته، وعن المهمة الإلهية العظيمة التي ستوكل إليه في آخر الزمان.
دلالات اللقاء وأبعاده الإيمانية
استمرارية الحجة الإلهية
كلام الإمام الحسن العسكري عليه السلام يؤكد عقيدة الإمامية بأن الأرض لا تخلو من حجة إلهية، لأن وجود الحجة هو ضمانة لاستمرار النعمة الإلهية ولحفظ النظام الكوني. حتى في غياب الحجة الظاهرية، فإن وجوده يمثل رحمة ولطفًا إلهيين.
الإمام الحسن العسكري عليه السلام أشار بوضوح إلى هوية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، موضحًا أن اسمه وكنيته هما نفس اسم وكنية رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنه سيملأ الأرض قسطًا وعدلًا بعد أن تملأ جورًا وظلمًا.
الاختبار الإلهي في غيبة الإمام المهدي عج الله تعالى فرجه
الإمام الحسن العسكري عليه السلام أكد أن الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه سيغيب غيبة طويلة، يكون فيها امتحان عظيم للمؤمنين. فقال:
« وَ اللَّهِ لَيَغِيبَنَّ غَيْبَةً لَا يَنْجُو فِيهَا مِنَ الْهَلَكَةِ إِلَّا مَنْ ثَبَّتَهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَلَى الْقَوْلِ بِإِمَامَتِهِ وَ وَفَّقَهُ فِيهَا لِلدُّعَاءِ بِتَعْجِيلِ فَرَجِهِ ».
الغيبة الكبرى تمثل امتحانًا للصبر والإيمان، حيث يتطلب من المؤمنين التمسك بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه رغم غيابه، والإيمان بمهمته الإلهية دون أدنى شك.
الإمام المهدي : بقيّة الله في أرضه
عندما طلب أحمد بن إسحاق علامة تطمئن قلبه، تكلم الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه بنفسه وقال:
فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ : فَقُلْتُ لَهُ : يَا مَوْلَايَ ، فَهَلْ مِنْ عَلَامَةٍ يَطْمَئِنُّ إِلَيْهَا قَلْبِي؟
فَنَطَقَ الْغُلَامُ عليه السلام بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ فَصِيحٍ ، فَقَالَ : أَنَا بَقِيَّةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ وَ الْمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِهِ ، فَلَا تَطْلُبْ أَثَراً بَعْدَ عَيْنٍ يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ.
فَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ : فَخَرَجْتُ مَسْرُوراً فَرِحاً.
هذه الكلمات تختزل مكانة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف ودوره الإلهي. فهو بقيّة الله، أي الحجة الباقية التي تستند إليها الحياة، وهو المنتقم من الظلم والطغيان.
الرمزية في تشبيه الإمام المهدي بالخضر وذي القرنين
ولما كان الغد، رجع أحمد بن إسحاق وسأل عن الحكمة من غيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، فشبّه الإمام عليه السلام غيبته بغَيبة النبي الخضر وذي القرنين، وهو تشبيه يحمل أبعادًا ورمزية عميقة.
« فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ عُدْتُ إِلَيْه ِ- فَقُلْتُ لَهُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ ، لَقَدْ عَظُمَ سُرُورِي بِمَا مَنَنْتَ بِهِ عَلَيَّ. فَمَا السُّنَّةُ الْجَارِيَةُ فِيهِ مِنَ الْخَضِرِ وَ ذِي الْقَرْنَيْنِ؟
فَقَالَ : طُولُ الْغَيْبَةِ يَا أَحْمَدُ ».
النبي الخضر عليه السلام
اختار الله النبي خضر عليه السلام لحكمة غير معلنة للبشر، وكانت حياته غامضة وغير مفهومة بالنسبة للأغلبية. كذلك الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه، فإنه يعيش بين الناس ولكنهم لا يعرفونه، وهو يؤدي دوره الخفي في حفظ العالم وإعداده لتحقيق العدالة الإلهية.
ذي القرنين
ذي القرنين كان ملكًا عادلًا ومصلحًا أوكلت إليه مهمة إصلاح الأرض. كذلك الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف هو الإمام الذي سيصلح العالم بأسره، وسيحقق العدالة المطلقة التي عجزت البشرية عن تحقيقها عبر التاريخ.
الحكمة من الغيبة الطويلة
فهنا تعجل أحمد بن إسحاق عند ما سمع بطول الغيبة وسأل عنها ، وأجابه الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن هذا الأمر وكيف يكون.
« قُلْتُ : يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ ، وَ إِنَّ غَيْبَتَهُ لَتَطُولُ؟
قَالَ : إِي وَ رَبِّي حَتَّى يَرْجِعَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ أَكْثَرُ الْقَائِلِينَ بِهِ ، وَ لَا يَبْقَى إِلَّا مَنْ أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ عَهْدَهُ لِوَلَايَتِنَا ، وَ كَتَبَ فِي قَلْبِهِ الْإِيمَانَ ، وَ أَيَّدَهُ بِرُوحٍ مِنْهُ ».
الحكمة من الغيبة تتمثل في غربلة القلوب واختبار الإيمان الحقيقي. فغيبة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه هي امتحان عظيم للمؤمنين، حيث يتميز فيها الصادقون بالإيمان عن المدعين.
أمرٌ من الله وأنه سر
ثم الإمام يوجه القول لأحمد بن إسحاق بتوجيه روحي عميق يحمل دلالة على أمر إلهي خاص لا يعلنه للجميع، بل يُمنح لمن اختاره الله لسرٍ من أسراره. ويؤكد أن ما قال له ليس أمراً عادياً، بل هو من علم الغيب، ومن خصوصيات التدبير الإلهي. يُطلب منه أن يتلقي هذا الأمر برضا وامتنان، وأن لا يُفشيه، لأن في الكتمان طاعة، وفي الطاعة قربٌ من مقام الأولياء. الوعد في النهاية ليس فقط بالثواب، بل بالمكانة الرفيعة "في علّيّين"، أي في أعلى مراتب الجنة والكرامة.
يَا أَحْمَدَ بْنَ إِسْحَاقَ ، هَذَا أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ، وَ سِرٌّ مِنْ سِرِّ اللَّهِ ، وَ غَيْبٌ مِنْ غَيْبِ اللَّهِ. فَخُذْ ما آتَيْتُكَ ، وَ اكْتُمْهُ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ ، تَكُنْ مَعَنَا غَداً فِي عِلِّيِّينَ » (1).
الدرس المستفاد من الحديث
أولًا: أهمية الإيمان بالغيب
الحديث يؤكد على أن الإيمان لا يُختصر فقط على المحسوسات أو الوقائع الظاهرة، بل يمتد ليشمل الغيب، وهو ركن أساسي في العقيدة الإسلامية. الإيمان بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه مع غيابه عن الأنظار هو تجسيد عملي لهذا المفهوم؛ فالمؤمن لا ينتظر الأدلة الحسية كي يصدق، بل يبني يقينه على ما ثبت من نصوص ومواقف ومعارف. الغيبة ليست غياباً في المعنى العقائدي، بل هي مرحلة اختبار لصدق التمسك بالإمامة، وهي تتطلب وعياً عميقاً وثقة راسخة بما وعد الله به.
ثانيًا: الدعاء بتعجيل الفرج
من المعاني التي يبرزها الحديث أيضاً هو أهمية إبقاء الصلة الروحية والعاطفية والفكرية مع الإمام الغائب عجل الله تعالى فرجه، وذلك من خلال الدعاء بتعجيل الفرج. هذا الدعاء ليس مجرد ترديد ألفاظ، بل هو موقف يعبر عن شوق وانتظار واستعداد. فالمؤمن حين يدعو للإمام، فهو في الحقيقة يعبر عن التزامه بنهجه، واستعداده للمساهمة في مشروعه الإصلاحي العالمي عند الظهور. ومن خلال هذا الدعاء، يحافظ الإنسان على وعيه بقضية الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه ويُبقيها حيّة في وجدانه وسلوكه اليومي.
ثالثًا: الصبر والثبات على العقيدة
مرحلة الغيبة الكبرى ليست مرحلة فراغ، بل هي اختبار مستمر لصبر الإنسان وثباته على الخط الصحيح. فالإمام المهدي عجل تعالى فرجه وإن كان غائبًا عن الأنظار، إلا أن أثره قائم، وتوجيهاته حاضرة في تراث أهل البيت وتعاليمهم. المطلوب من المؤمن أن لا يتزعزع، وأن يستمر في طلب المعرفة الحقة، ويتسلح باليقين، حتى يكون مستعداً ليكون من أنصاره عند ظهوره. الصبر في زمن الغيبة ليس فقط على البلاء، بل على الفتن الفكرية والانحرافات العقائدية التي قد تُضعف الارتباط بالإمام، وهنا يظهر دور الثبات الحقيقي.
الخاتمة: أمل الظهور والارتباط بالإمام المهدي عج الله تعالى فرجه
تمثل بشارة الإمام الحسن العسكري عليه السلام بولادة الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف محطة محورية في العقيدة الإمامية، تؤكد على استمرارية الحجة الإلهية رغم الغيبة، وتُظهر عمق العناية الإلهية بحفظ الدين والناس. هذا الحديث الشريف لم يكن مجرد إعلان عن ولادة الإمام المنتظر، بل كان توجيهاً روحياً عميقاً يحمل دلالات غيبية وتربوية، يربط بين المعرفة، والإيمان، والمسؤولية.
فمن خلال هذا اللقاء التاريخي بين الإمام العسكري عليه السلام وأحمد بن إسحاق، نجد تجسيداً واضحاً لمفاهيم مثل اليقين بالغيب، وأهمية الكتمان، والتمسك بالولاية، إلى جانب الاستعداد لنصرة الإمام في كل حين. كما أن رمزية الغيبة والتشبيه بالخضر وذي القرنين تكشف عن حكمة إلهية في بقاء الحجة غائباً، ليكون ظهوره المنتظر تتويجاً للصبر والثبات والتمحيص.
إن الإيمان بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه ليس فقط إيمانًا بمستقبل أفضل، بل هو موقف يومي يعكس الالتزام العملي بالعقيدة ، والصلة المستمرة بين الإنسان وخليفة الله في أرضه. ومَن وُفّق لفهم هذا المقام ، والتفاعل معه بالصبر والدعاء والعمل ، كان من أهل "علّيين"، حيث وعد الإمام بأن يكون الشاكرون والكاتمون للسر من خاصة أصحابه.
بهذا، تبقى هذه البشارة نوراً يتجدد في القلوب، ومصدر أمل يعمق الإيمان ويشد العزم حتى يحين وعد الله الحق.
1. كمال الدين و تمام النعمة / الشيخ الصدوق / المجلّد : 2 / الصفحة : 384 ـ 385 / ناشر: اسلاميه.
التعلیقات