شارع القصص
احسن القصص
شارع القصص >احسن القصص > سيرة المعصومين > قصة الإمام الحسن بن علي ( عليه السلام )
 
 

قصة الإمام الحسن بن علي ( عليه السلام )

دعوةٌ للجِهادِ


     لا أعرِفُ ماذا أقولُ لَكُمْ؟ ؛ وَبِماذا أصفُكُمْ ؟ فالاِنسانُ ليسَ بشَكْلِهِ وَجَسَدِهِ.. وإنّما بمضمونِهِ الّذي أرادَهُ اللهُ تَعالى لَهُ ؛ حين أعطاهُ ما أعطاهُ حتّى جَعَلَهُ في مَكانَةٍ رَفِيعةٍ تَلِيقُ بالاحترِامِ والتقدِيرِ.. فَهُوَ سَيّدُ مَخلُوقاتِ اللهِ في أرْضِهِ شَرْطَ أنْ يُحسِنَ التفكيرَ بِما مَنَحَهُ اللهُ إيّاهُ.. وَهُوَ ذلِكَ العَقْلُ الّذِي أمَرَهُ اللهُ تَعالى حِينَ خَلَقَهُ بالاِقبالِ فَأقبَلَ.. والاِدبارِ فأدبَرَ.. إنَّكُمْ تَعرِفُونَ جَيّداً مَاذا قالَ لَهُ بَعدَ هذا..؟ قالَ : بِعزَّتي وَجَلالي بِكَ أعاقِبُ وبِكَ أُثيبُ..
     فَإذا كانَ حَقّاً أيُّها الناسُ بِهذا العَقلِ أنتُمْ آمَنْتُمْ باللهِ وبِرَسُولِهِ وكتابِهِ وشَهَدتُّمْ بِذلِكَ ، فإنّي الآنَ أسألُكُمْ بِحَقِّ مَا آمَنْتُمْ بِهِ : ما مَعنى قَولِهِ تَعالى : ( قُلْ لا أسأَلُكُمْ عَلَيهِ أجراً إلاّ المودَّةَ في القُربى ) (1)؟
     وما معنى قوله تعالى ‎: (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهلَ الَبيتِ ويُطَهَّرَكُمْ تَطْهِيراً..) (2)؟
     وَمَا مَعنى وَصيِةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم لَكُمْ فِي بَيعةِ غَديرِ خُمٍّ..؟ ألَمْ يَقُلْ : ـ « إِنّي تاركٌ فِيكُمُ الثَّقَلَينِ كِتِابِ اللهِ تَعالى وعِترتِي أهل بَيتِي مَا إنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهما لَنْ تَضِلُّوا بَعدي أبداً..»؟
     يَكادُ قَلبِي يَتَفَجَّرُ بُركاناً مِن دماءٍ ساخِنَةٍ.. ألَمْ يَكُنْ الاِمامُ الحسَنُ عليه السلام واحداً من أهلِ بيتِ النَّبُوةِ..؟! ومِنْ بَينِ الّذِينَ نَصَّتْ عَلَيهِمْ آياتُ كِتابِ اللهِ تَعالى..؟! وأوْصاكُمْ بِهِمْ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم؟! .. إذَنْ أينَ كانَتْ هذِهِ العقُولُ الاِنسانِيةُ حِينَما دَعاكُمْ إمامُكُمْ الحسَنُ بنُ عليٍّ عليه السلام بَعدَ التحَرُّكاتِ الاَُمَويَةِ بِاتّجاهِ العِراقِ مُخاطِباً إيّاكُمْ : إنَّ اللهَ كَتَبَ الجِهادَ على خَلقِهِ.. وسمّاهُ كُرْهاً.. ثُمَّ قالَ لاَهلِ الجِهادِ : (إصْبِروا إنَّ اللهَ مَعَ الصابِرينَ) فَلَستُم أيُّها النّاسُ نائِلينَ ما تُحِبُّونَ إلاّ بالصَّبر على مَا تَكرهونَ.. فَاخرُجُوا يَرحَمْكُمُ اللهُ إلى مُعَسكَرِكُمْ بالنُّخَيْلَةِ.. حَتّى نَنظُرَ وتَنظُروا.. ونَرى وَتَروا..

     ألَمْ تَكُنِ الاِمَامَةُ أصلاً من أصولِ دِينِكُم..؟! إطاعتُها إطاعةُ الرَّسُولِ وإطاعةُ الرَّسُولِ هِيَ إطاعةُ اللهِ تَعالى؟!

قصة الإمام الحسن بن علي  عليه السلام

     إذَنْ أينَ كانتْ عُقولَكُمْ إزاءَ كَلامِ إمامِكُمُ الحَسَنِ عليه السلام حِينَ أمَرَكُمْ بالتَّوجُّهِ إلى مُعسكرِ النُّخَيْلةِ..؟! ومَاذا كانَ يَختلِجُ في صُدورِكُمْ وَيَلْعَبُ بِمشاعِرِكُمْ وأحاسِيسِكُمْ.. ؟! كَيفَ لم تُدرِكْ عُقولُكُمْ إشاعاتِ ودعاياتِ مُعاويةَ.. فأُصِيبَتْ بِالذهُولِ وَلَفَّها الارتِباكُ حَتّى واجَهْتُمْ أمرَ إمامِكُمْ الحَقِّ بِبُرودٍ تامٍّ.. فلم تَحْظَ دَعوَتُهُ لَكُمْ بالتجَهُّزِ لِلحَربِ.. وتَحمُّلِ مسؤوليّةِ الجهادِ بالقبولِ.. أيّةُ عقولٍ هذهِ التي أذْعَنَتْ لِلاَموالِ الاَُمويةِ بَدَلاً مِنْ أنْ تَهُبُّ للدِفاعِ عَنِ الحَقِّ..؟!

* * *
     وَفي خَضْمِ تِلكَ الاَحداثِ لَمَعَ شُعاعُ أملٍ بَدَّدَ خَيبَةَ الاِمامِ الحسنِ عليه السلام بِواقِعِ الناسِ مِنْ حَولِهِ.. وَقَدْ تَمثَّلَ هذا فِي عَديٍّ بنِ حاتمٍ.. وقَيسٍ بنِ سَعدٍ.. ومَعقِلٍ بنِ قَيسٍ.. وزيادٍ بنِ صَعْصَعةَ التمِيميِّ.. عَبَّرَ هؤلاءِ عَنْ وفائِهِمْ وَإخلاصِهِمْ لاِمامِهِمْ الحَسَنِ عليه السلام فَشَدُّوا عَلى يَديهِ.. وَعاهَدُوهُ عَلى المُضيِّ قُدُماً في نُصْرَةِ الحْقِّ ومُواجَهَةِ
قصة الإمام الحسن بن علي  عليه السلام

     الطغيانِ والفِتْنَةِ.. فَرَفَعُوا أصواتَهُمْ أمامَ الجُموعِ المُتَخاذِلَةِ يَلومُونَهُمْ.. ويَحرِّضُونَهُمْ عَلى النُهوضِ بِمسؤولِيّاتِهِمُ الرسالِيّةِ..

     فَفَرِحَ الاِمامُ عليه السلام بهؤلاءِ وأثْنى عَلى موقِفِهِمْ الصادِقِ قائِلاً : صَدَقْتُمْ رَحِمَكُمُ اللهُ.. مازِلْتُ أعرِفُكُمْ بِصِدْقِ النيَّةِ.. والوَفاءِ.. وَالموَدَّةِ الصحِيحَةِ.. فَجزاكُمُ اللهُ خَيراً..

* * *
     لَعَلَّ الناسَ عَادوا إلى نُصرةِ الحقِّ.. وقَبِلُوا الدِفاعَ عَنِ الاِسلامِ.. وَقَدْ كانَ هذا أملُ الاِمامِ الحسنِ عليه السلام بِهِمْ.. فَراحَ يَرسِمُ الخُطَطَ لِقيادَةِ الفِرَقِ العَسكَرِيَّةِ.. واختارَ لِقيادَتِها ابنَ عَمِّهِ عُبيدُ اللهِ بنَ العَبّاسِ.. فَأرسَلَ مَعَهُ طَلِيعةً عَسكَريَّةً كَمُقَدَّمَةٍ لِلجَيشِ مُخاطِباً إيّاهُ : يَا ابنَ العَمِّ إنّي باعِثٌ مَعَكَ اثني عَشَرَ ألفَ رَجُلٍ فِيهِمْ فُرسانُ العَرَبِ ، وقُرّاءُ المِصْرِ ، الرجُلُ مِنْهُمْ يَزِيدُ الكتِيبَةَ . فَسِرْ بِهِمْ ، وألِنْ لَهُمْ جانِبَكَ.. وابسُطْ لَهُمْ وَجهَكَ.. وافرُشْ لَهُمْ جَناحَكَ.. وأدنِهِمْ مِنْ مَجلِسِكَ.. فإنَّهُمْ بَقيةُ ثُقاةِ أميرِ المؤمنينَ عليه السلام سِرْ بِهِمْ على شَطِّ الفُراتِ.. ثُمَّ امضِ حتّى تَستقبِلَ بِهِمْ جَيْشَ مَعاويةَ.. فإنْ لَقِيتَهُ فاحتَسِبْهُ حتّى آتيكَ فإنّي على أثرِكَ وشيكاً.. وَليَكُنْ خَبرُكَ عِنْدِي كَلَّ يَومٍ.. ولا تُقاتِلْ جَيشَ معاويةَ حتّى يُقاتِلَكَ . فإنْ فَعَلَ فَقاتِلْهُ.. وَإذا حَدَثَ فَأُصِبْتَ.. فَقَيسٌ بنُ سَعْدٍ عَلى الجَيشِ.. فإنْ اُصيبَ هُو الآخرُ فَسعِيدٌ بنُ قَيسٍ يَحلُّ مَحِلَّهُ في قِيادةِ الجَيشِ..

* * *
     حِينَ اتَّخَذَتِ القَطَعاتُ العَسكَرِيَّةُ مَواقِعَها فِي مَنطَقَةِ (مَسْكَن) على نَهرِ الدُّجَيلِ فِي العراقِ، كانَ الاِمامُ الحَسَنُ عليه السلام قَدْ تَحرَّكَ على رَأسِ بَقيَّةِ الجَيشِ فَعَسْكَرَ في مَنطَقَةِ (مظلمِ ساباط) قُربَ المدائِنِ..
     وإنّي لاَُخاطِبَكُمُ الآنَ أيُّها الناسُ.. هَلْ هِيَ عُقُولُكُمْ وَضَمائِرُكُمْ التي جَعَلَتكُمْ تَتَجَمَّعُونَ وتُشَكِّلُونَ جَيشاً في مُعَسْكَرِ النُّخَيلَةِ..؟ أمْ هِيَ كَلماتُ التَوبيخِ والمَلامَةِ التي وَجَّهَها إليكُمْ عَديٌّ بنُ حاتمٍ وغَيرُه من أهلِ البَصائرِ؟! فَقَدْ كانَ ذلِكَ واضحاً عَليكُمْ وأنتُمْ تَسيرونَ بِخَطُواتٍ مُتَثاقِلَةٍ.. ومعنويّاتٍ ضَعِيفَةٍ.. يَسْتَبِدُّ بِكُمُ الخَور والتَّشَتِّتُ.. ألا تُدْرِكُونَ وأنْتُمْ عَلى هذِهِ الحالةِ أنَّكُمْ تَعصُونَ اللهَ عزّ وَجَلَ بَينما معاويةُ الملعونُ يُعلِنُ عِصيانَهُ للهِ.. إلاّ أنَّ جَيشَهُ يُطِيعَهُ..
     وَرَغْمَ كلِّ هذا.. فَقَدْ حَدَثَ مَا زادَ الطينْ بَلّةً.. وأطفَأ شُعاعَ الاَمَلِ فِي وَجْهِ الاِمامِ الحَسنِ عليه السلام وَيا لَها مِنْ فاجِعَةٍ غَيَّرَتْ مَجرى الاَحداثِ سَريعاً بِشَكلٍ لَمْ يَكُنْ مُتَوقَّعاً.. فَقائِدُ الجيشِ تَسْتَهوِيهِ الاَموالُ.. ويَقِفُ ضَعِيفاً أمامَ الاِغراءِ الّذي تَسَلَّلَ إليهِ في جُنْحِ الظَّلامِ.. فَيصبحُ جَيشُ الاِمامِ الحسنِ عليه السلام وَهُمْ يَنتَظِرونَ قائدَهُم لِيصلّيَ بِهِمْ صَلاةَ الفَجْرِ.. فإذا هُوَ بَينَ صفوفِ جيشِ معاويةَ .

قصة الإمام الحسن بن علي  عليه السلام

     وهَكذا وَجَدَ معاويةُ أنّ أقربَ طريقٍ لاِرغامِ الاِمامِ الحسن عليه السلام على مبايعته.. هُوَ إشاعةُ الدِعاياتِ المغْرِضَةِ بَينَ صُفوفِ الجَيشِ وَالناسِ.. وبَذْلُ الاَموالِ المُغرِيةِ لِشراءِ ضَمائرِ الناسِ وعُقولِهِمْ.. فَبَعدَ أنْ أصْبَحَ عُبيدُاللهِ بنُ العبّاسِ قائدُ جَيشِ الاِمامِ بَينَ صفوفِ جيشِ مُعاوِيةَ.. رَفَعَ مُنادي معاويةَ صَوتَهُ يُخاطِبُ جيشَ الاِمامِ عليه السلام : هذا قائدُكُمْ عِندَنا قَدْ بايعَ.. فَعلامَ تَقتُلونَ أنفُسَكَمُ.. ؟
     واستَمَرّ مُعاويةُ في نَشاطِهِ المحمُومِ.. فَكَتَبَ إلى بعضِ زُعماءِ الكُوفَةِ يَعِدُهُمْ بالمالِ.. ويُمنِّيهِمْ بِالولايةِ.. فَرَغَبَ لِذلِكَ بَعضُهُمْ.. وكَتَبُوا إليهِ يَستَعجِلُونَهُ.. ويَحثُّونَهُ على المسيرِ نَحوَهُمْ.. وضَمِنُوا لَهُ تَسليمَ الاِمامِ الحسنِ عليه السلام أو الفَتكِ بِهِ.. وَعَلِمَ الاِمامُ الحسنُ عليه السلام بِذلِكَ . فَصارَ يَلْبَسُ دِرْعَهُ إذا أرادَ الصّلاةَ..

* * *
قصة الإمام الحسن بن علي  عليه السلام

     وَبعدَ كلِّ هذهِ الاَحداثِ.. كانَ لابُدَّ للاِمامِ عليه السلام مِنْ أحدِ خيارَينِ.. أمّا أنْ يَسْتَمِيتَ هُوَ وأهلُ بَيتِهِ وأهلُ البَصائِرِ مِنْ أصحابِهِ فَيقِفُونَ بِضْعَ سَاعاتٍ أمامِ جَيشِ مُعاوِيةَ.. ثُمَّ يَخلُو الجوُّ بَعدَها لِمعاوِيةَ.. أو أنْ يُبايعَ لِيصُونَ المبادِئَ مِنَ التشوِيهِ ، ويَحفَظَ شِيعَتَهُ مِنَ الاِبادَةِ ، وَالاِسلامَ مِنْ أنْ يُمحَى فَتعودُ الجاهِليّةُ مِنْ جَديدٍ.. لِذلِكَ وَجدَ الاِمامُ الحَسَنُ عليه السلام نَفْسَهُ مُرغَماً على مُبايعَةِ معاويةَ..      لِيَنصَرِفَ بَعدَ ذلِكَ إلى تبليغِ الناسِ.. وتَعلِيمِهِمْ وإرشادِهِم.. لَعَلَّ عُقولَهُمْ وَضَمَائِرَهُمْ تَستَجِيبُ لِهذا العَلمِ والتفكّرِ بِهِ والعْمَلِ بِمضامِينِهِ.. ولكِنْ هَلْ سيَكتَفي مُعاويةُ بكرسيِّ الحُكمِ.. ؟ وَيتوقَّفُ عَنْ حِياكةِ دَسائِسِهِ الخَبِيثَةِ.. واستِغلالِهِ لِعقولِ الناسِ وضمائِرِهِمْ بالاِغراءِ..؟! أمْ أنّهُ سَيُواصِلُ طريقَهُ المشؤومَ حَتّى القَضاءِ على الاِمامِ الحسنِ عليه السلام .. ؟!

قصة الإمام الحسن بن علي  عليه السلام
     نَعَمْ ، لم يقرَّ لِمعاويةَ قَرارٌ حَتّى دَسَّ السُّمّ للاِمامِ الحسنِ عليه السلام عَلى يدِ جَعدةَ بِنْتِ الاَشْعَثِ بَعدَ أنْ مَنّاها الاَمانيَّ .
     وَهكَذا نَقَضَ معاويةُ الصّلحَ والعُهودَ والمواثِيقَ ، وَسَقَطَتْ آخِرُ وَرقةٍ كانَ يُحاوِلُ التَسَتُّرِ بِها في إظهارِهِ الاِسلامَ .
____________
(1) الشورى 42 : 23 .
(2) الاحزاب 33 : 33 .